الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: صلى بنا النبي آمن ما كان بمنى ركعتين

          1083- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ): مكبَّراً، هو: هشام بن عبد الملك الطَّيالسيُّ (قَالَ: حَدَّثَنَا): وللأصيليِّ: <أخبرنا> (شُعْبَةُ): أي: ابن الحجَّاج، قال: (أَنْبَأَنَا): من الإنباء، بمعنى: الإخبار والتحديث في عرف المتقدِّمين، قال القسطلانيُّ: ولم يذكر بهذا اللَّفظ فيما سبق.
          (أَبُو إِسْحَاقَ): كنية عَمرو بن عبد الله السَّبيعيِّ (قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ): بالحاء المهملة والمثلَّثة (ابْنَ وَهْبٍ): الخزاعيَّ، وهو أخو عُمر بن الخطَّاب لأمِّه، قاله القسطلانيُّ على ما في النُّسخ، ولعلَّ أصلها: أخو عبيد الله بن عمر لأمِّه، كما في الكرمانيِّ والعينيِّ، وقال في ((التَّقريب)): صحابيٌّ، نزل الكوفة، وكان عُمر زوجَ أمِّه. انتهى.
          (قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ آمَنَ): بمدِّ الهمزة وفتحاتٍ، أفعل تفضيلٍ مِن الأمنِ ضدُّ الخوف، نصب على الحال (مَا كَانَ): أي: النبيُّ، وللحموي والكشميهنيِّ: <ما كانت> بزيادة تاء التَّأنيث؛ أي: الصَّلاة، ولمسلمٍ: ((والنَّاس أكثر ما كانوا)) ورأيت في نسخةٍ معتمدةٍ هنا: <آمن ما كنَّا> (بِمِنًى): أي: فيها (رَكْعَتَيْنِ): أي: مقصورةً، وكلمة ((ما)) مصدريَّةٌ، ومعناه: الجمع؛ لأنَّ ما أُضيف إليه أفعل يكون جمعاً، والمعنى: صلَّى بنا والحال أنَّ أكثر أكواننا في سائر الأوقات أمناً مِن غير خوفٍ، وإسناد الأمن إلى الأوقات مجازٌ، والباء في ((بمنًى)): ظرفيَّةٌ تتعلَّق بقوله: ((صلَّى)).
          وقال في ((الفتح)): قال الكرمانيُّ: في ما وقع في الحجِّ بلفظ: ((في حالٍ ونحن أكثر ما كنَّا قطُّ وآمنُه)) إنَّ قوله: وآمنُه، بالرَّفع، ويجوز النَّصب بأن يكون فعلاً ماضياً وفاعله: الله، وضمير المفعول النَّبي، والتَّقدير: وآمن الله نبيَّه حينئذٍ، قال: ولا يخفَى بُعْد هذا الإعراب. انتهى، ولعلَّ الغرض مِن نقله هنا أنَّه يجوز هنا ما جاز هناك، فتأمَّل.
          وفيه: دليلٌ على جواز القصر في السَّفر من غير خوفٍ وإن دلَّ ظاهر قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} على الاختصاص؛ لأنَّ ما في الحديث رخصةٌ، وما في الآية عزيمةٌ، ويدلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام المرويُّ في مسلمٍ عن يعلى بن أميَّة: قال: فقلت لعُمر بن الخطَّاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] فقد أمن النَّاس؟ فقال عمر: عجبْتُ ممَّا عجبْتَ منه، فسألتُ رسول الله عن ذلك فقال: ((صدقةٌ تصدَّقَ اللهُ بها عليكم، فاقبلُوا صدقتَه))، وقال شيخ الإسلام: / وأمَّا الشَّرط في قولِه تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} فخرج مخرج الغالبِ، فلا يُعمَل بمفهومه، وفيه: عظمُ شأن النبيِّ صلعم حيث أطلق ما قيَّده الله ووسَّع على عباده. انتهى، وقيل: المراد بالقصر في الآية: قصر الصَّلاة في الخوف إلى ركعةٍ، ونظر فيه في ((الفتح)) بحديث مسلمٍ المارِّ، فإنَّه ظاهر في أنَّ الصَّحابة فهمُوا قصرَ الصَّلاة في السَّفر مطلقاً.
          وأخرجه المصنِّف في الحجِّ أيضاً، ومسلمٌ في الصَّلاة، وأبو داود في الحجِّ، وكذا الترمذيُّ والنسائيُّ.