الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: صليت مع رسول الله بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر

          1084- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ): ولأبي ذرٍّ والأصيليِّ زيادة: <ابن سعيدٍ> (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ): أي: العبديُّ، ولأبي ذرٍّ: <ابن زيادٍ> (عَنِ الأَعْمَشِ): أي: سليمان بن مهران (قَالَ: حَدَّثَنَا): بالجمع، ولابن عساكر: <حدَّثني> (إِبْرَاهِيمُ): النخعيُّ لا التَّيميُّ (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ): مِن الزِّيادة، النخعيَّ (يَقُولُ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ☺ بِمِنًى): أي: فيها حال إقامته بها أيَّام الرَّمي بعدَ رجُوعهِ من أعمَال الحجِّ (أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ): أي: أتمَّ المكتوبةَ الرُّباعيَّة فـ((أربع ركعاتٍ)) مفعول ((صلَّى)) ومضاف إليه.
          (فَقِيلَ ذَلِكَ): ولأبي ذرٍّ والأصيليِّ: <فقيل في ذلك> أي: فيما ذكرَ من صلاة عثمان أربع ركعاتٍ (لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ☺ فَاسْتَرْجَعَ): أي: قال ابن مسعودٍ: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون لِما رأى مِن تفويت عثمان لفضيلة القصر، لا لكون الإتمام لا يجزئ، ولا يُفهم منه أنَّ الإتمام غير مُجزئٍ؛ لأنَّه قال: ((فليت حظِّي من أربعٍ ركعتان متقبَّلتان)) إذ لو كانت الأربع لا تجزئ لفسادها لم يكن فيها حظٌّ أصلاً.
          (ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم): أي: المكتوبة الرُّباعيَّة (بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ): أي: مقصورةً (وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ): ولأبوي ذرٍّ والوقت والأصيليِّ زيادة: <الصِّدِّيق> (بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ): وسقط: <بمنًى> لأبي ذرٍّ في أصلٍ وثبت في غيره (فَلَيْتَ حَظِّي): بالحاء المهملة والظَّاء المشالة (مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ): سقط للأصيليِّ: <ركعاتٍ> و((من)) للبدل، كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة:38] أي: فليت نصيبي بدل أربع ركعاتٍ (رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ): أي: مقبولتان عند الله تعالى.
          قال في ((الفتح)): وهذا يدلُّ على أنَّه كان يرى الإتمام جائزاً، وإلَّا لَما كان له حظٌّ من الأربع ولا من غيرها، فإنَّها كانت تكون فاسدةً كلها، وإنَّما استرجع لِما وقع عنده من مخالفة الأَولى، ويؤيِّده ما روى أبو داود: أنَّ ابن مسعودٍ صلَّى أربعاً، فقيل له: عبْتَ على عثمان ثمَّ صلَّيت أربعاً؟ فقال: الخلاف شرٌّ، وفي رواية البيهقيِّ: إنِّي لأكره الخلاف، ولأحمد من حديث أبي ذرٍّ مثل الأوَّل، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يكن يعتقد أنَّ القصر واجبٌ كما قال الحنفيَّة، ووافقهم القاضي إسماعيل من المالكيَّة، وهي روايةٌ عن مالكٍ وأحمد.
          وقال ابن قدامةَ: المشهور عن أحمدَ أنَّه على الاختيار، والقصر عنده أفضل، وهو قول جمهور الصَّحابة والتَّابعين، واحتجَّ الشافعيُّ على عدم الوجوب بأنَّ المسافر إذا اقتدى بمقيم صلَّى أربعاً باتِّفاقهم، ولو كان فرضه القصر لم يأتمَّ مسافرٌ بمقيمٍ؛ أي: أو يقصر وينوي المفارقة ويسلِّم أو ينتظره جالساً حتَّى يفرغ فيسلِّم معه، ونقل الدَّاوديُّ أنَّه كان يرى القصر فرضاً، وفيه نظرٌ، ولو كان كذلك لَما تعمَّد ترك القصر حيث صلَّى أربعاً، وقال: إنَّ الخلاف شرٌّ.
          ثمَّ قال في ((الفتح)): ويظهر أثر الخلاف فيما إذا قام إلى الثَّالثة عمداً فصلاته صحيحةٌ عند الجمهور، وعند الحنفيَّة فاسدةٌ ما لم يكن جلس للتَّشهُّد. انتهى، وقد اعترض العينيُّ على ((الفتح)) فقال: هذا القائل تكلَّم بما يُوافق غرضه، أمَّا قوله: هذا يدلُّ على أنَّ ابن مسعودٍ كان يرى الإتمام جائزاً فيردُّه ما قاله الدَّاوديُّ: إنَّ ابن مسعودٍ / كان يرى القصر فرضاً، ذكره صاحب ((التَّوضيح)) وغيره، ويؤيِّده ما قاله عمر بن عبد العزيز: الصَّلاة في السَّفر ركعتان، لا يصحُّ غيرهما، وأطال في المفاوضة لما في ((الفتح)) جدًّا، وكلُّه لا يخلو من شيءٍ، أمَّا ما نقله عن الدَّاوديِّ فقد نظر فيه في ((الفتح))، ولم يذكر في ((الانتقاض)) جواباً عن اعتراض العينيِّ، وذكر العينيُّ أنَّ تعيُّن القصر هو المنقول عن عمر وعليٍّ وجابرٍ وابن عبَّاسٍ وابن عمر، قال: وبهذا يُردُّ على هذا القائل في قوله: وهو قول جمهور الصَّحابة والتَّابعين. انتهى، فانظر ما وجه الرَّدِّ به على هذا القائل.
          وحديث الباب أخرجه المصنِّف أيضاً في الحجِّ، ومسلمٌ في الصَّلاة، وأبو داود في الحجِّ وكذا النَّسائيُّ.