الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء

          ░13▒ (باب: الْجَمْعِ): أي: حكمه (فِي السَّفَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ): قال في ((الفتح)): أورد المصنِّف أبواب الجمع في أبواب التَّقصير؛ لأنَّه تقصيرٌ بالنِّسبة للزَّمان، ثمَّ أبواب صلاة المعذور قاعداً؛ لأنَّه تقصيرٌ بالنِّسبة إلى بعضِ صور الأفعال. انتهى.
          قال العينيُّ: وإنَّما ذكر لفظ الجمع مطلقاً ليتناول جميع أقسامه؛ لأنَّ في الباب ثلاثة أحاديث، فحديث ابن عمر وابن عبَّاسٍ بصورة التَّقييد وحديث أنسٍ بصورة الإطلاق.
          وقال في ((الفتح)): استعمل المصنِّف التَّرجمة مطلقةً إشارةً إلى العمل بالمطلق؛ لأنَّ المقيَّد فردٌ مِن أفراده، وكأنَّه رأى جواز الجمع بالسَّفر، سواءٌ كان سائراً أم لا، وسواءٌ كان سيراً مجدًّا أم لا، وهذا ممَّا وقع فيه الاختلاف بين أهل العلم، فقال بالإطلاق كثيرٌ مِن الصَّحابة والتَّابعين، ومِن الفقهاء الثوريُّ والشافعيُّ وأحمد وإسحاق وأشهب، وقال قومٌ: لا يجوز الجمع مطلقاً إلَّا بعرفة ومزدلفة، وهو قول الحسن والنخعيِّ وأبي حنيفة وصاحبيه، وقال النَّوويُّ: إنَّ أبا يوسف ومحمَّداً خالفا أبا حنيفة وقالا كالشافعيِّ.
          وتعقَّبه السروجيُّ: بأنَّ ما قاله عنهما لا أصل له، وهو أعرفُ بمذهبه، واحتجُّوا بأنَّ مواقيت الصَّلاة قد صحَّت فلا تُترَك بأخبار الآحاد، وردَّ عليهم: بأنَّها مستفيضةٌ، وبأنَّها لا فرقَ بينها وبين حديث الجمع بعرفات وبالمزدلفة، وأجابُوا عن الأخبار: بأنَّ الجمعَ فيها صوريٌّ؛ لأنَّه أخَّر المغرب مثلاً إلى آخر وقتها، وعجَّل العشاء مثلاً.
          وتعقَّبه الخطَّابيُّ وغيره: بأنَّ الجمع رخصةٌ، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقاً؛ لأنَّ أوائل الأوقات وأواخرها ممَّا لا يدركه أكثر الخاصَّة فضلاً عن العامة، ومن الدَّليل على أنَّ الجمع للرُّخصة ما رواه مسلمٌ عن ابنِ عباسٍ: ((أراد أن لا يحرج أمَّته))، ومما يردُّ الحملَ على الصُّوريِّ جمع التَّقديم الآتي، وقيل: يختصُّ الجمع بمن يجدُّ في السَّير، قاله الليثُ، وهو المشهور عن مالكٍ، وقيل: يختصُّ بالمسافر دون النَّازل، وهو قول ابن حبيبٍ، وقيل: يختصُّ بمن له عذرٌ، وحُكي عن الأوزاعيِّ، وقيل: يجوز جمع التَّأخير دون التَّقديم، وهو مرويٌّ عن مالكٍ وأحمد، واختاره ابن حزمٍ، وقد أطال العينيُّ في هذا المقام.