الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: يقصر إذا خرج من موضعه

          ░5▒ (بَابٌ: يَقْصُرُ): أي: المصلِّي الرُّباعية (إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ): أي: قاصداً سفراً شرعيًّا تقصر فيه الصَّلاة، فالمراد بيان الموضع الَّذي يجوز ابتداء القصر منه.
          قال في (الفتح)): وهي مِن المسائل المختلف فيها أيضاً، قال ابن المنذرِ: أجمعوا على أنَّ مَن يريد السَّفر له أن يقصرَ إذا خرج من جميع بيوتِ القرية الَّتي يخرجُ منها، واختلفُوا فيما قبلَ الخروج مِن البيوت، فذهب الجمهور إلى أنَّه لا بدَّ مِن مفارقة جميع البيوت، وذهب بعض الكوفيِّين إلى أنَّه إذا أراد السَّفر يصلِّي الرُّباعية ركعتَين ولو كان في منزله، ومنهم مَن قال: / إذا ركب قصرَ إن شاء، ورجَّح ابنُ المنذرِ الأوَّل بأنَّهم اتَّفقوا على أنَّه يقصر إذا فارق البيوت، واختلفوا فيما قبل ذلك، فعليه الإتمامُ على أصل ما كانَ عليه حتَّى يثبتَ أنَّ له القصر، قال: ولا أعلمُ أنَّ النبيَّ قصر في شيءٍ مِن أسفاره إلَّا بعد خروجه من المدينةِ.
          وهذا في غير البلدة الَّتي لها سورٌ مختصٌّ بها، فإن كان كذلك فالشَّرط مجاوزته فقط عند الشافعيَّة، وإن كان داخله مزارع ومواضع خربة، ولا يُشترَطُ مجاوزة العمران وراءه في الأصحِّ، والقريةُ كالبلدِ لا بدَّ مِن مجاوزة عمرانها، لا الخراب والبسَاتين والمزارع خارج عمرانها وإن اتَّصلَتْ بها وكانت محوطةً، وأوَّل سفرٍ ساكن الخيام _كالأعراب_ مجاوزة الحلَّةِ، واشترط المالكيَّة أن يجاوز أيضاً البساتين المسكونة، كما هو ظاهر ((المدوَّنة))، وعن مالكٍ: إن كانت قرية جمعة فلا بدَّ أن يجاور ثلاثةَ أميالٍ، وظاهر كلام غير أئمَّتنا الشافعيَّة: أنَّه لا يكفي مجرَّد مجاوزة السُّور إذا كان وراءه عمارةٌ، بل لا بدَّ مِن مجاوزتها مع ربض البلد، وهو ما حولها من بيوتٍ ومساكن، لكن مِن جانب خروجه فقط وإن لم يجاوزِ الجانب الآخر.
          قال العينيُّ: فعندنا إذا فارق المسافرُ بيوت المصرِ يقصرُ، وقال في ((المحيط)): الصَّحيح أنَّه يُعتبر مجاوزة عمران المصرِ، إلَّا إذا كان ثمَّ قرية أو قرًى متَّصلة بربض المصرِ فلا بدَّ من مجاوزةِ القرى، وقال الشافعيُّ: يشترط مجاوزة السُّور لا الأبنية المتَّصلة بالسُّور خارجه، وفي ((المغني)) لابن قدامة: ليس لمن نوى السَّفر القصر حتَّى يخرج من بيوت مصرِه أو قريته ويخلِّفها وراء ظهره، قال: وبه قال مالكٌ والأوزاعيُّ وأحمد والشافعيُّ وإسحاق وأبو ثورٍ. انتهى.
          (وَخَرَجَ عَلِيٌّ): أي: مِن الكوفة يريد السَّفر، ولأبي ذرٍّ والأصيليِّ: <وخرج عليُّ بن أبي طالبٍ> (☺ فَقَصَرَ): أي: الصَّلاة الرُّباعية (وَهْوَ يَرَى الْبُيُوتَ): أي: بيوت الكوفة، والجملة الاسميَّة حاليَّةٌ.
          (فَلَمَّا رَجَعَ): أي: مِن سفره المذكور (قِيلَ لَهُ): وسقط: <له> لأبي ذرٍّ، ولم أقف على تعيينِ القائل، ولعلَّه عليُّ بن ربيعة كما يأتي قريباً، بل يُشير إليه (هَذِهِ الْكُوفَةُ؟): أي: فهل نتمُّ الصَّلاة؟ (قَالَ): أي: عليٌّ ☺ (لَا): حرف جوابٍ يقدَّر بعده نتمُّها؛ أي: لا نتمُّها بل نقصرُها (حَتَّى نَدْخُلَهَا): أي: الكوفة، فهم قبلَ الدُّخول في حكم المسافرين وإن التصقُوا بعمرانها أو بسُورها حيث لم يدخلوا لداخلِها.
          وهذا التَّعليق وصله الحاكمُ عن عليِّ بن ربيعة قال: ((خرجنا مع عليِّ بن أبي طالبٍ فقصرنا الصَّلاة ونحن نرى البيوت، ثمَّ رجعنا فقصرنا الصَّلاة ونحن نرى البيوت)) ورواه البيهقيُّ عن وِقاء بن إياس _بكسر الواو وبالقاف ممدودٌ_، كما في ((الفتح)) و((العمدة))، وأمَّا ما يقع في بعض نسخ القسطلانيِّ من زيادة واوٍ ساكنةٍ بعد الواو فتحريفٌ من النُّسَّاخ، قال في ((التقريب)): وِقاء بن إياس: بكسر أوَّله وقاف: أبو يزيدَ الأسديُّ الكوفيُّ، ليِّنُ الحديث، من الطَّبقة الَّذين أدركوا الصَّحابة ولم يجتمعوا بهم. انتهى بلفظ: ((خرجنا مع عليٍّ متوجِّهين ههنا _وأشار بيده إلى الشام_ فصلَّى ركعتَين ركعتَين، حتَّى إذا رجعنا ونظرنا إلى الكوفة / حضرت الصَّلاة، قالوا: يا أمير المؤمنين؛ هذه الكوفة أنُتِمُّ الصَّلاة؟ قال: لا، حتَّى ندخلها)).
          وتبيَّن بما تقرَّر أنَّ معنى أثر عليٍّ: ((لا، حتَّى ندخلها)): لا نزال نقصر الصَّلاة حتَّى ندخل الكوفة، لا كما فهمه ابن بطَّالٍ مِن أنَّه امتنع مِن قصر الصَّلاة حتَّى يدخل الكوفة فيصلِّيها تامَّةً بعد دخوله لاتِّساع وقتها.
          ومطابقته للتَّرجمة ظاهرةٌ، فإنَّه قصر مِن أوَّل مفارقة البيوت الَّتي هي موضعه؛ لأنَّه صار بذلك مسافراً، ولذا استمرَّ يقصر حتَّى دخلها.