الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: خرجنا مع النبي من المدينة إلى مكة فكان

          1081- وبالسند قال: (حَدَّثَنا أَبُو مُعَمِرٍ): بفتح الميمين، عبد الله بن عَمرٍو المنقريُّ المقعد (قَالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الوَارِثِ): أي: ابن سعيدٍ التَّنوريُّ (قَالَ: حَدَّثَنا يَحيَى بنُ أَبِي إِسْحَاقَ): أي: الحضرميُّ، وفي بعض الأصول المعتمدة: <أخبرنا> (قَالَ: سَمِعتُ أَنَسَاً): ☺ (يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلعم مِنَ الْمَدِينَةِ): يوم السَّبت بين الظُّهر والعصر لخمس ليالٍ بقين من ذي القعدة (إِلَى مَكَّةَ): أي: إلى الحجِّ، كما في رواية شعبةَ عن يحيى بن أبي إسحاقَ عند مسلمٍ.
          (فَكَانَ) أي: النبيُّ عليه السَّلام (يُصَلِّي): أي: الفرائض (رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ): أي: إلَّا المغرب، كما عند البيهقيِّ عن أنسٍ ☺ (حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ).
          وقوله: (قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئاً؟): من كلام يحيى، وهمزة الاستفهام في ((أقمتم)): مقدَّرةٌ (قَالَ: أَقَمْنَا بِهَا): أي: بمكَّة ونواحيها (عَشْراً): أي: عشرة أيَّامٍ بلياليها، وحذف التَّاء من ((عشر)) مع أنَّ المعدود مذكَّرٌ، وهو الأيَّام؛ لأنَّه محذوفٌ، وإذا كان كذلك فيجوز التَّذكير والتَّأنيث، كما هو مقرَّرٌ.
          وقال في ((الفتح)): لا شكَّ أنَّه خرج من مكَّة صبح الرَّابع عشر، فتكون مدَّة إقامته بمكَّة أربعة أيَّامٍ سواء؛ لأنَّه خرج منها في اليوم الثَّامن، فصلَّى الظُّهر بمنًى، ومِن ثمَّ قال الشافعيُّ: إنَّ المسافر إذا أقام ببلدةٍ قصر أربعة أيَّامٍ، وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاةً.
          وأمَّا قول ابن رشيدٍ: أراد البخاريُّ أن يبيِّنَ أنَّ حديث أنسٍ داخلٌ في حديث ابن عبَّاسٍ؛ لأنَّ إقامة عشرة داخلةٌ في إقامة تسع عشرة، فأشارَ بذلك إلى أنَّ الأخذ بالزَّائد متعيِّنٌ؛ ففيه نظرٌ؛ لأنَّ ذلك إنَّما يجيء على اتِّحاد القصَّتين، والحقُّ أنَّهما مختلفتان، فالمدَّة / في حديث ابن عبَّاسٍ سوِّغ الاستدلال بها على مَن كان متردِّداً متى يتهيَّأ له فراغ حاجته يرحل، والمدَّة في حديث أنسٍ يستدلُّ بها على مَن نوى الإقامة؛ لأنَّه عليه السَّلام في أيَّام الحجِّ كان جازماً بالإقامة تلك المدَّة.
          ووجه الدِّلالة من حديث ابن عبَّاسٍ: أنَّ الأصل في المقيم الإتمامُ، فلمَّا لم يثبت عنه أنَّه أقام في السَّفر أكثر من تلك المدَّة جعلها غايةً للقصر، واختلف العلماء في ذلك على أقوالٍ كثيرةٍ ستأتي.
          وفيه: أنَّ الإقامة في أثناء السَّفر تُسمَّى إقامةً، وإطلاق البلد على ما جاورها؛ لأنَّ منًى وعرفة ليستا من مكَّة، أمَّا عرفة فلأنَّها خارج الحرم، فليست من مكَّة قطعاً، وأمَّا منًى ففيها احتمالٌ، والظَّاهر أنَّها ليست من مكَّة إلَّا إن قلنا: إنَّ اسم مكَّة يشمل جميع الحرم.
          وقال أحمد بن حنبل: ليس لحديث أنسٍ وجهٌ إلَّا أنَّه حسب أيَّام إقامته في حجَّته منذ دخل مكَّة إلى أن خرج منها، وقال المحبُّ الطَّبريُّ: أطلق على ذلك إقامةً بمكَّة؛ لأنَّ هذه المواضع مواضع النُّسك، وهي في حكم التَّابع لمكَّة، لا يتَّجه سوى ذلك، كما قاله أحمد، وزعم الطَّحاويُّ أنَّ الشافعيَّ لم يسبق إلى أنَّ المسافر يصير بنيَّة إقامته أربعة أيَّامٍ مقيماً، وقال أحمد نحو ما قال الشافعيُّ، وهي روايةٌ عن مالكٍ. انتهى.
          وقال الخطَّابيُّ: اضطرب كلام النَّاس في هذه المسألة، واعتمد البخاريُّ هذا الحديث وهو يجمع حكاية فعله، وكون هذه المدَّة حدًّا لجواز القصر من رأي ابن عبَّاسٍ، فكأنَّه ذهب إلى أنَّ أصل الصَّلاة الإتمامُ، وإنَّما يجوز القصر بعلَّة السَّفر، ومدَّة التِّسع عشرة في مقام السَّفر مستثناةٌ من جملة حكم صلاة المقيم، وما وراءها مردودٌ إلى الأصل، إلَّا أنَّه شرط فيه وجود الخوف، وجعل مدَّة الرُّخصة من غير خوفٍ أربعة أيَّامٍ، ولو كانت العلَّة فيه الخوف لم يكن للتَّحديد معنًى.
          تنبيهٌ: استشكل قصره صلعم المدَّة المذكورة مع ما تقرَّر أنَّ المسافر لو نوى إقامة أربعة أيَّامٍ انقطع سفره بوصوله، بخلاف ما دونها، فإنَّه لا يُسمَّى مقيماً لحديث: ((يقيمُ المهاجرُ بعدَ قضاءِ نسكِه ثلاثاً)) وكان يَحرُم على المهاجرين الإقامة بمكَّة، فالتَّرخُّص في الثَّلاث يدلُّ على بقاء حكم السَّفر، بخلاف الأربعة، ولا شكَّ أنَّه عليه السَّلام كان في حجِّه جازماً بالإقامة بمكَّة المدَّة المذكورة.
          وأُجيب: بأنَّه عليه السَّلام قدِم مكَّة لأربعٍ خلون من ذي الحجَّة يوم الأحدِ، فأقام بها إلى يوم الخروج إلى منًى، وهو اليوم الثَّامن، فخرج فيه فبات بمنًى، ثمَّ سار إلى عرفات، ورجع فبات بمزدلفةَ، ثمَّ سار إلى منًى فقضى نسكه، ثمَّ أتى مكَّة فطاف ورجع إلى منًى، فأقام بها ثلاثة أيَّامٍ يقصر، ثمَّ نفر منها بعد الزَّوال في ثالث أيَّام التَّشريق فنزل بالمحصب، وطاف في ليلته للوداع، وخرج من مكَّة قبل الصُّبح، فلم يقم بها أربعاً.
          وأخذ ابن المنيِّرِ كما في ((المصابيح)) من قول أنسٍ: ((أقمنا بمكَّة عشراً)) أنَّ النبيَّ لم يصلِّ الجمعة بمكَّة في حجَّة الوداع؛ لأنَّ الجمعة الأُولى كان واقفاً بعرفة، ولا جمعة فيها، وخرجَ في الجمعة الثَّانية ليلة الأربعاء إلى المحصب، وكان سببه فرض / الهجرة، وهو عليه السَّلام لمَّا ترك وطنَه لله تحرَّج أن يرجعَ فيه بوجهٍ ما، ولم يوسِّع على نفسه كما وسَّع على أصحابه، وأمَّا الصَّحابة فالظَّاهر أنَّهم صلَّوا الجمعة الثَّانية في مكَّة؛ لأنَّه وسَّع لهم في إقامة ثلاثة أيَّامٍ بعد قضاء نسكهم. انتهى.
          وحديث الباب أخرجه المصنِّف أيضاً في المغازي، ومسلمٌ في الصَّلاة، وكذا أبو داود والتِّرمذيُّ وابن ماجه، وأخرجه النَّسائيُّ فيها وفي الحجِّ.