الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الصلاة بمنى

          ░2▒ (بَابُ الصَّلَاةِ بِمِنًى): بكسر الميم وتخفيف النُّون مقصوراً، تُذكَّر باعتبار المكان، وهو الأغلب، فيُصرف ويُكتب بالألف، وتُؤنَّث بحسب البقعة، فتُمنع من الصَّرف وتُكتب بالياء، قيل: سُمِّيت بذلك لما يمنى فيها؛ أي: يُراق من الدِّماء، والمراد: الصَّلاة بها في أيَّام الرَّمي، قاله في ((الفتح)).
          ولم يذكر المصنِّف حكم المسألة لقوَّة الخلاف فيها، وخصَّ منًى بالذِّكر لأنَّها المحلُّ الَّذي وقع فيها ذلك قديماً، واختلف السَّلف في المقيم بها هل يقصر أو يتمُّ؟ فعند مالكٍ: يقصر وإن كان من أهل مكَّة مثلاً؛ لأنَّ القصر للنُّسك، وفصَّل الشافعيَّة والجمهور فقالُوا: إن كان مسافراً سفراً طويلاً قصر، وإلَّا فلا؛ لأنَّ القصر عندهم للسَّفر، وقال بعض المالكيَّة: لو لم يجز لأهل مكَّة القصر بمنًى لقال لهم النبيُّ: أتمُّوا؛ إذ ليس بين مكَّة ومنًى مسافة القصر، فدلَّ على أنَّ القصر للنُّسك.
          وأُجيب: بأنَّ الترمذيَّ روى عن عمران بن حصينٍ: أنَّ النبيَّ كان يصلِّي بمكَّة ركعتين ويقول: ((يا أهل مكَّة؛ أتمُّوا فإنَّا قومٌ سفرٌ)) فكان ترك إعلامهم بذلك بمنًى استغناءً بما تقدَّم بمكَّة، قال في ((الفتح)): وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ الحديث ضعيفٌ، ولو صحَّ فالقصَّة كانت في الفتح، وقصَّة منًى في حجَّة الوداع، فكان لا بدَّ مِن البيان لبعد العهد، ولا يخفى أنَّ أصل البحث مبنيٌّ على أنَّ تسليم أنَّ المسافة بين مكَّة ومنًى لا تُقصَر الصَّلاة فيها، وهو مِن محالِّ الخلاف كما سيأتي بعد بابٍ. انتهى.
          وما ذكره في ((الفتح)) مبنيٌّ على أنَّ التَّرجمة مثل ما ذكره، وقد رأيت في نسخٍ: <باب تقصير الصَّلاة بمنًى> وفي بعضٍ آخر: <باب تقصر الصَّلاة بمنًى> وعلى كلٍّ فيكون قد بيَّن حكمها، فاعرفه.
          وقال العينيُّ: واختلف العلماء في صلاة المكِّيِّ بمنًى؛ فقال مالكٌ: يتمُّ بمكَّة ويقصر بمنًى، وكذلك أهل منًى يتمُّون بمنًى ويقصرون بمكَّةَ وعرفات، قال: وهذه المواضع مخصوصةٌ بذلك لأنَّ النبيَّ صلعم لمَّا قصر بعرفة لم يميِّز مَن وراءه، ولا قال لأهل مكَّة: أتمُّوا، وهذا موضع بيانٍ، وممَّن روي عنه أنَّ المكِّيَّ يقصر بمنًى ابن عمر وسالمٌ والقاسم وطاووس، وبه قال الأوزاعيُّ وإسحاق، وقالوا: إنَّ القصر سنَّة الموضع، وإنَّما يتمُّ بمنًى وعرفات مَن كان مقيماً فيها.
          وقال أكثر أهل العلم منهم: عطاء والزهريُّ والثوريُّ والكوفيُّون وأبو حنيفة وأصحابه والشافعيُّ وأحمد وأبو ثورٍ: لا يقصر الصَّلاة أهل مكَّة بمنًى وعرفات لانتفاء مسافة القصر، وقال الطَّحاويُّ: وليس الحجُّ مُوجِباً للقصر؛ لأنَّ أهل منًى وعرفات إذا كانوا حجَّاجاً أتمُّوا، وليس هو متعلِّقاً بالموضع، وإنَّما متعلِّقٌ بالسَّفر، وأهل مكَّة مقيمون هناك لا يقصرون، / ولمَّا كان المقيم لا يقصر لو خرج إلى منًى، كذلك الحاجُّ. انتهى.