الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أقام النبي تسعة عشر يقصر

          1080- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ): أي: المنقريُّ (قَالَ: حَدَّثَنَا): وفي بعض الأصول المعتمدة: <أخبرنا> (أَبُو عَوَانَةَ): بفتح العين وتخفيف الواو، هو: الوضَّاح اليشكريُّ (عَنْ عَاصِمٍ): أي: ابن سليمان الأحول (وَحُصَيْنٍ): مصغَّر حصنٍ _بالحاء والصَّاد المهملتين_ أي: ابن عبد الرَّحمن السلميِّ (عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ): ولأبي ذرٍّ: <رسول الله> (صلعم): أي: في فتح مكَّة كما زاده في المغازي (تِسْعَةَ عَشَرَ): بتقديم الفوقيَّة على السِّين؛ أي: يوماً بليلته (يَقْصُرُ): بفتح التحتيَّة وسكون القاف وضمِّ الصَّاد، وبخطِّ المنذريِّ: بضمِّ الياء وتشديد الصَّاد المكسورة، قاله في ((التَّنقيح))، وجواز القصر ما ذكر محمولٌ على مَن له حاجةٌ يتوقَّعها ولم يعزمْ على الإقامةِ، كما يأتي.
          وهذا الحديث كما في ((الفتح)): أخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ: ((سبعة عشر)) بتقديم السِّين على الموحَّدة، ولأبي داود أيضاً عن عمران بن حصينٍ قال: غزوتُ مع رسول الله صلعم عام الفتح فأقام بمكَّة ثماني عشرة ليلةً لا يصلِّي إلَّا ركعتين، وله أيضاً عن ابن عبَّاسٍ: أقام رسولُ الله صلعم بمكَّة عام الفتحِ خمس عشرة يقصر الصَّلاة.
          وجمعَ البيهقيُّ: بأنَّ مَن قال: تسع عشرة حسب يومي الدُّخول والخروج، ومَن قال: سبع عشرة حذفهما، ومَن قال: ثماني عشرة حسب أحدهما، وأمَّا رواية: خمس عشرة، فضعَّفها النَّوويُّ في ((الخلاصة))، قال في ((الفتح)): وليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ رواتها ثقاتٌ، ولم ينفردْ بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النَّسائيُّ، وإذا ثبت صحَّتها فتُحمَل على أنَّ الرَّاوي ظنَّ أنَّ الأصل روايةُ: سبع عشرة، فحذف منها يومي الدُّخول والخروج، فذكر أنَّها خمس عشرة، واقتضى ذلك أنَّ تسع عشرة أرجح الرِّوايات، وبها أخذَ إسحاق بن راهويه، ويرجِّحها أيضاً: أنَّها أكثر ما وردت به الرِّوايات الصَّحيحة، وأخذ الثَّوريُّ وأهل الكوفة برواية خمس عشرة لكونها أقلَّ ما وردَ، فيُحمَل ما زاد على أنَّه وقعَ اتِّفاقاً، وأخذَ الشافعيُّ بحديث عمران بن حصينٍ، لكن إذا كان متردِّداً له حاجة يتوقَّعها فإنَّه يقصر إلى مضيِّ هذه المدَّة فقط، ولو نوى الإقامة أربعة أيَّامٍ في أوَّل الأمر أتمَّ مِن وقت نيَّته.
          وقال البيهقيُّ: أصحُّ الرِّوايات فيه رواية ابن عبَّاسٍ، وهي الَّتي ذكرها البخاريُّ، ومِن ثمَّ اختارها ابن الصَّلاح والسُّبكيُّ، وحديث عمران الَّذي رجَّحه الشافعيُّ، قال في ((المجموع)): في سنده مَن لا يُحتجُّ به، لكن أُجيب عنه: بأنَّ له شواهد تجبره، ففي ((التُّحفة)) تعليلاً لقول ((المنهاج)): قصر ثمانية عشر يوماً غير يومي الدُّخول / والخروج؛ لأنَّه عليه السَّلام أقامها بعد فتح مكَّة لحرب هوازن يقصر الصَّلاة، حسَّنه التِّرمذيُّ، ولم ينظر لابن جدعان أحد رواته وإن ضعَّفه الجمهور؛ لأنَّ له شواهدَ تجبره، وصحَّتْ رواية عشرين وتسعة عشر وسبعة عشر، ويجمُع بحمل عشرين: على عدِّ يومي الدُّخول والخروج، وتسعة عشر على عدِّ أحدهما، وسبعة عشر أو خمسة عشر _بتقدير صحَّتها_ على أنَّه بحسب علم الرَّاوي وغيره زاد عليه فقدَّم، وقيل: أربعة لا أزيد عليها؛ أي: ولا مساويها، بل لا بدَّ مِن نقصٍ عنها؛ لأنَّ نيَّة إقامتها تمنع التَّرخُّص، فإقامتها أولى، وفي قولٍ: أبداً، وحُكي الإجماع عليه؛ لأنَّ الظَّاهر أنَّه لو دامت الحاجة لدام القصر، وقيل: الخلاف فيما فوق الأربعةِ في خائف القتال لا التَّاجر ونحوه، فلا يقصران فيما فوقها؛ إذ الوارد إنَّما كان في القتال، والمقاتل أحوج للتَّرخُّص، وأُجيب: بأنَّ المرخِّص إنَّما هو وصف السَّفر، والمقاتل وغيره فيه سواءٌ. انتهى.
          وقوله: (فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا)...إلخ: من كلام ابن عبَّاسٍ، ((فنحن)): مبتدأٌ، والشَّرط وجوابه خبر المبتدأ، وقوله: (تِسْعَةَ عَشَرَ): أي: يوماً معمول: ((سافرنا)) (قَصَرْنَا): أي: الصَّلاة الرُّباعية، وذلك عند توقُّع الحاجة يوماً فيوماً.
          (وَإِنْ زِدْنَا): في الإقامة على تسعة عشر يوماً (أَتْمَمْنَا): الصَّلاة أربعاً، قال في ((الفتح)): ظاهره أنَّ السَّفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد، وقد صرَّح أبو يعلى عن شيبان عن أبي عَوَانة في هذا الحديث بالمراد، ولفظُه: ((إذا سافرنا فأقمْنَا في موضعٍ تسعة عشر)) ويؤيِّدُه صدر الحديث وهو قوله: ((أقام))، وللترمذيِّ من وجهٍ آخر عن عاصمٍ: ((فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلَّينا أربعاً)).
          وحديث الباب أخرجه المصنِّف أيضاً في المغازي، وأبو داود والتِّرمذيُّ وابن ماجه في الصَّلاة.