إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: سقتني حفصة شربة عسل

          5268- وبه قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”حَدَّثني“ بالإفراد (فَرْوَةُ بْنُ أَبِي المَغْرَاءِ) بالفاء المفتوحة والراء الساكنة، والمَغْرَاء _بفتح الميم والراء بينهما غين ساكنة ممدود_ البِيْكنديُّ الكوفيُّ قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) الكوفيُّ الحافظ (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزُّبير بن العوَّام (عَنْ عَائِشَةَ ♦ ) أنَّها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُحِبُّ العَسَلَ وَالحَلْوَاءَ) بالهمز والمدِّ، ولأبي ذرٍّ: ”والحلوى“ بالقصرِ. قال في «القاموس»: والحلواء وتقصر. وعند الثَّعالبيِّ‼ في «فقه اللُّغة»: أنَّ حلوى النَّبيِّ صلعم الَّتي كان يحبُّها هي المَجِيْع _بالجيم_ بوزن عظيمٍ. قال / في «القاموس»: تمرٌ يُعجن بلبنٍ. وليس هذا من عطفِ العامِّ على الخاصِّ(1) وإنَّما العامُّ الَّذي يدخل فيه الحُلو(2)؛ بضم أوَّله (وَكَانَ) صلعم (إِذَا انْصَرَفَ مِنَ العَصْرِ) أي: من صلاة العصر (دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو) أي: يقرب (مِنْ إِحْدَاهُنَّ) بأن يقبِّلها ويباشرها من غير جماعٍ، كما في روايةٍ أخرى، وفي رواية حمَّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عند(3) عبدِ بن حُميدٍ: أنَّ ذلك إذا انصرفَ من صلاةِ الفجر. لكنَّها كما في «الفتح» روايةٌ شاذَّةٌ، وعلى تسليمها فيُحتمل أنَّ الَّذي كان يفعلُه أوَّل النَّهار سلامٌ ودعاءٌ محضٌ، والَّذي في آخره معه جلوسٌ ومحادثةٌ (فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ) فأقام عندها (أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ فَغِرْتُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي) في حديث ابن عبَّاسٍ: «أنَّ عائشة قالت لجويريَّة حبشيَّةٌ عندها _يقال لها: خضراء_: إذا دخل على حفصةَ فادخلِي عليها فانظرِي ماذا(4) يصنعُ»، فقالت: (أَهْدَتْ لَهَا) أي: لحفصةَ (امْرَأَةٌ(5)مِنْ قَوْمِهَا) لم أعرف اسمها (عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ) سقط الجار لأبي ذرٍّ، وزاد ابنُ عبَّاس: ”مِن الطَّائف“ (فَسَقَتِ النَّبِيَّ صلعم مِنْهُ شَرْبَةً) وفي الرِّواية السَّابقة من هذا الباب أنَّ شربَ العسل كان عندَ زينب بنت جحشٍ، وفي هذه عند حفصةَ، وقد قدمنَا أنَّ روايةَ ابن عبَّاسٍ عند ابنِ مَرْدويه أنَّه كان عند سَوْدة، وأنَّ عائشةَ وحفصة هما اللَّتان تواطأتا(6) كما في رواية عُبيد بن عُمير المرويَّة أوَّل هذا الباب، وإن اختلفتَا(7) في صاحبةِ العسل، وحمله على التَّعدُّد إذ لا يمتنعُ تعدُّد السَّبب للشَّيء الواحدِ، أو رواية عبيد أثبت لموافقةِ ابن عبَّاسٍ لها على أنَّ المتظاهرتين حفصة وعائشة على ما تقدَّم(8) في «التَّفسير» [خ¦4913] فلو كانت حفصةُ صاحبةَ العسل لم تقرنْ في المظاهرة بعائشة، لكن يمكنُ تعدُّد القصَّة التِّي في شرب العسلِ وتحريمه، واختصاص النُّزول بالقصَّة الَّتي فيها أنَّ عائشةَ وحفصة هما المتظاهرتان، ويمكنُ أن تكون القصَّة الَّتي وقع فيها الشُّرب عند حفصة كانت سابقةً، والرَّاجح أيضًا أنَّ صاحبةَ العسل زينب لا سودة؛ لأنَّ طريق عُبيد أثبتُ من طريقِ ابن أبي مُليكة، ويؤيِّده أنَّ(9) في «الهبة» [خ¦2581]: أنَّ نساءَ النَّبيِّ صلعم كنَّ حزبين: عائشة، وسَودة، وحَفصة، وصفيَّة في حزبٍ، وزينب بنتُ جحشٍ، وأمُّ سلمة، والباقيات في حزبٍ، ولذا غارتْ عائشة منها لكونها من غيرِ حزبها، وممَّن ذهب إلى التَّرجيح عياضٌ، فقال: رواية عُبيد بن عُمير أولى لموافقتِها‼ ظاهر القرآن لأنَّ فيه {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ}[التحريم:4] فهما ثنتان(10) لا أكثر، قال: فكأنَّ الأسماءَ انقلبتْ على راوي الرِّواية الأُخرى، لكن اعترضَه الكِرمانيُّ فقال: متى جوَّزنا هذا ارتفعَ الوثوقُ بأكثر الرِّوايات، وفي «تفسير السُّدِّيِّ»: أنَّ شرب العسل كان عند أمِّ سلمة. أخرجه الطَّبريُّ وغيره، وهو مرجوحٌ لإرسالهِ وشُذوذه. انتهى ملخَّصًا من «الفتح».
          قالت عائشة: (فَقُلْتُ: أَمَا) بفتح الهمزة وتخفيف الميم (وَاللهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ) أي: لأجلهِ (فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: إنَّهُ(11)) صلعم (سَيَدْنُو) أي: يقرب (مِنْكِ، فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِي) له: (أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: لَا، فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ؟) وسقطَ لفظ «منك» لأبي ذرٍّ (فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ) بفتح الجيم والراء والسين المهملة، أي: رَعَت (نَحْلُهُ) أي: نحل هذا العسل الَّذي شربتَهُ (العُرْفُطَ) بضم العين المهملة والفاء بينهما راء ساكنة آخره طاء مهملة، الشَّجر الَّذي صَمْغه المغافير (وَسَأَقُولُ) أنا له (ذَلِكَ وَقُولِي) له (أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ) بنت حُييٍّ (ذَاكِ) بكسر الكاف بلا لامٍ، ولأبي ذرٍّ: ”ذلك“ أي: قولي الكلام الَّذي علَّمته لسودةَ، زاد يزيدُ بن رومان، عن ابن عبَّاسٍ: «وكان رسولُ الله صلعم أشدَّ عليه أن توجدَ منه ريحٌ كريهةٌ» لأنَّه يأتيهِ الملك (قَالَتْ) عائشة: (تَقُولُ سَوْدَةُ) لي(12): (فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَامَ) صلعم (عَلَى البَابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُبَادِئهُ) بالموحدة من المبادأة بالهمز، ولابنِ عساكرَ: ”أناديه“ بالنون بدل الموحدة (بِمَا أَمَرْتِنِي بِهِ)(13) من أن أقولَ له: أكلتَ مَغافير (فَرَقًا) بفتح الفاء والراء، خوفًا (مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا) ╕ / (مِنْهَا قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: لَا) ما أكلتُها (قَالَتْ) له: (فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ) ها (مِنْكَ؟ قَالَ) ╕ : (سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ) وسقطَ لابن عساكرَ «عسل» (فَقَالَتْ) سودة: (جَرَسَتْ) رَعَت (نَحْلُهُ العُرْفُطَ) شجر المغافير، وقالتْ عائشة: (فَلَمَّا دَارَ إِلَيَّ) بتشديد الياء (قُلْتُ لَهُ) ╕ ، وسقط لأبي ذرٍّ «له»(14) (نَحْوَ ذَلِكَ) القول الَّذي قلت لسودةَ أن تقولَه له (فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ، قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ) عبَّر بقولهِ نحو ذلك في إسنادِ القول لعائشة، وبقولهِ مثل ذلك في إسنادهِ(15) لصفيَّة لأنَّ عائشة لمَّا كانت المبتكرة لذلك عبَّرت عنه بأيِّ لفظ أرادت، وأمَّا صفيَّة فإنَّها مأمورةٌ بقول ذلك فليس لها أن تتصرَّف فيه، لكن وقع التَّعبير بلفظ «مثل» في الموضعين في رواية أبي أسامة [خ¦6972] فيُحتمل‼ أن يكون ذلك من تصرُّف الرُّواة (فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَة) في اليوم الآخر (قَالَتْ) له: (يَا رَسُولَ اللهِ أَلا) بالتَّخفيف (أَسْقِيكَ مِنْهُ؟) من العسل (قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ) لِما وقع من توارد النِّسوة الثَّلاث على أنَّه نشأت له من شربه ريحٌ كريهةٌ، فتركه حسمًا للمادَّة (قَالَتْ) عائشة: (تَقُولُ سَوْدَةُ: وَاللهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ) بتخفيف الراء، منعناه صلعم من العسل. قالتْ عائشة: (قُلْتُ لَهَا) أي: لسودة: (اسْكُتِي) لئلَّا يفشو ذلك فيظهر ما دبَّرته لحفصة، وهذا منها على مقتضى طبيعة النِّساء في الغيرة، وليس بكبيرةٍ بل صغيرةٌ معفوٌّ عنها مكفَّرة.


[1] في (د) و(م): «الخاص على العام».
[2] «الحلو»: ليست في (س).
[3] في (م): «عن».
[4] في (ص): «ما».
[5] في (د): «أهدت امرأة لها».
[6] في (ص) و(م): «تواطئا».
[7] في (د): «اختلفا».
[8] «تقدم»: ليست في (م) و(د).
[9] في (م) و(د): «ما».
[10] في (ب): «اثنتان».
[11] في (م) و(د): «فإنه».
[12] في (م): «له».
[13] في (م) زيادة: بسكون الفوقيَّة في «اليونينيَّة».
[14] «وسقطت لأبي ذرٍّ لفظ له»: ليست في (د) و(م).
[15] في (ب): «إسناد».