إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب خيار الأمة تحت العبد

          ░15▒ (بابُ خِيَارِ الأَمَةِ) إذا عَتقت وهي (تَحْتَ العَبْدِ) أو المُبَعَّضِ قبل الدُّخول أو بعده، ومفهومه: أنَّ الأمة‼ إذا كانت تحت حرٍّ فعتقتْ لم يكن لها خيارٌ. وهذا مذهب الشَّافعيَّة والمالكيَّة والجمهور لتضرُّرها بالمقام تحتَه(1) من جهة أنَّها تتعيَّر به لأنَّ العبدَ غير مكافئٍ للحرَّة في أكثر الأحكام، فإذا عتقتْ ثبتَ لها الخيار من البقاء في عِصمته أو المفارقة لأنَّها في وقتِ العقد عليها لم تكنْ من أهل الاختيار. وأُجيب بأنَّ الكفاءة إنَّما تعتبر في الابتداءِ لا في البقاء. وقال الحنفيَّة: يثبتُ لها الخيار إذا عتقتْ سواءٌ كانت تحت حرٍّ أم عبدٍ لأنَّها عند التَّزويج لم يكن لها رأيٌ لاتِّفاقهم على أنَّ لمولاها أن يزوِّجها بغيرِ رضاها، فإذا عتقتْ تجدَّدُ لها حال لم تكن قبل ذلك. وأُجيب بأنَّ ذلك لو كان مؤثِّرًا لثبتَ الخيار للبكر إذا زوَّجها أبوها ثمَّ بلغت رشيدةً وليس كذلك، فكذلك الأمة تحت الحرِّ فإنَّه لم يحدث لها بالعتقِ حال ترتفع به عن الحرِّ، ومنشأُ الخلاف الاختلاف في ترجيحِ إحدى الرِّوايتين المتعارضتين في زوج بريرة، هل كان حين أعتقتْ حرًّا أو عبدًا؟ وفي ترجيحِ المعنى المعلَّل به، ففي حديثِ الباب وغيره من «الصَّحيحين» من حديث ابن عبَّاسٍ أنَّه كان عبدًا، ولم تختلفْ الرِّوايات عنه، وتمسَّك الحنفيَّة بحديث عائشة المرويِّ في «الصَّحيحين» و«السُّنن الأربعة» وقال التِّرمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ.
          قال الشَّيخ كمال الدِّين بن الهمام: والتَّرجيح يقتضِي في حديثِ عائشة ترجيحَ أنَّه كان حرًّا، وذلك أنَّ رُواة هذا الحديث عن عائشةَ ثلاثة: الأسود وعروة والقاسم، فأمَّا الأسود فلم يختلف فيه عن عائشة أنَّه كان حرًّا، وأمَّا عروة فعنه روايتان صحيحتان إحدَاهما أنَّه كان حرًّا والأخرى أنه كان عبدًا وأما عبد الرحمن بن القاسم فعنه أيضًا روايتان صحيحتان إحداهما أنه كان حرًّا(2) والأُخرى بالشَّكِّ، ووجه آخر من التَّرجيح مُطلقٌ لا يختصُّ بالمرويِّ فيه عن عائشة، وهو أنَّ رواية: خيَّرَها صلعم وكان زوجها عبدًا، يحتملُ كون الواو فيه للعطف لا للحال، وحاصله: أنَّه إخبارٌ بالأمرين، وكونه اتَّصف بالرِّقِّ لا يستلزم كون ذلك كان حالَ عتقها، هذا بعدَ احتمال أن يرادَ بالعبدِ العتيق مجازًا باعتبارِ ما كان، وهو شائعٌ في العُرف، والَّذي لا مردَّ له من التَّرجيح أنَّ رواية كان حرًّا أنص(3) مِن كان عبدًا، وتُثْبِت(4) زيادةً فهي أولى، وأيضًا فهي مُثبتةٌ، وتلك كانت نافيةً للعلم بأنَّه كان حالتُه الأصليَّة الرِّقَّ، والنَّافي هو المُبقيها، والمثبتُ هو المُخْرِجُ عنها. انتهى.
          وحديث الأسود كما في «الفتح» اختلف فيه على راويه هل هو من قولِ الأسود؟ أو رواهُ عن عائشة؟ أو هو قول غيره؟ قال إبراهيمُ بن أبي طالبٍ أحد حُفَّاظ الحديث، وهو من أقرانِ مسلمٍ فيما / أخرجَه البيهقيُّ‼ عنه: خالفَ الأسودُ النَّاس في زوج بَرِيْرة، وقال الإمام أحمد: إنَّما يصحُّ أنَّه كان حرًّا عن(5) الأسود وحدَه، وصحَّ عن ابن عبَّاسٍ وغيره أنَّه كان عبدًا، ورواه علماءُ المدينة _وإذا روى علماء المدينة شيئًا وعملوا به فهو أصحُّ شيء_: وإذا عُتقت الأمَة تحتَ الحرِّ فعَقْدُها المتَّفق على صحَّته لا يفسخُ بأمرٍ مختلفٍ فيه.


[1] في (ص): «عنده».
[2] قوله: «والأخرى أنه كان عبدًا وأما عبد الرحمن بن القاسم... أنه كان حرًا» مستدرك من فتح القدير.
[3] في (م): «أتقن»، وفي (ص): «نص».
[4] في (م) و(د): «ثبت».
[5] في (ب): «عند».