إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون

          ░11▒ (بابُ) بيان حكم (الطَّلَاقِ فِي الإِغْلَاقِ) بكسر الهمزة وسكون الغين المعجمة آخره قاف، وهو الإكراه، وسمِّي به لأنَّ المُكره كأنَّه يُغلق عليه الباب ويضيقُ عليه حتى يطلِّق، وقيل: العمل في الغضب، وتمسَّك بهذا التَّفسير بعضُ متأخِّري الحنابلةِ القائلين بأنَّ الطَّلاق في الغضبِ لا يقع، ولم يوجد عن أحدٍ من متقدِّميهم، لكن ردَّ هذا التَّفسير المطرِّزيُّ والفارسيُّ بأنَّ طلاق النَّاس غالبًا إنَّما هو في حالِ الغضب، ولو جاز عدم وقوع طلاقِ الغضبان لكان لكلِّ أحدٍ أن يقول: كنت غضبان، فلا يقع عليَّ طلاقٌ (وَ) حكم (المُكْرَهِ) بضم الميم وفتح الراء، وفي «اليونينيَّة»: ”والكُرْه“ بغير ميم وضم الكاف وسكون الراء (وَ) حكم (السَّكْرَانِ وَ) حكم (المَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا) هل هو واحدٌ أو مختلفٌ؟ (وَ) حكم / (الغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ) الواقعين (فِي الطَّلَاقِ وَ) حكم (الشِّرْكِ) إذا وقع من المُكلَّف ما يقتضيهِ غلطًا أو نسيانًا هل يُحكم به أم لا؟ وإذا كان لا يحكم عليه به فالطَّلاق كذلك (وَغَيْرِهِ) أي: غير الشِّرك ممَّا هو دونه أو غير ما ذكر نحو الخطأ وسبق اللِّسان والهزل. وحكى ابن الملقِّن: أنَّ في بعض النُّسخ: ”والشَّكِّ“ بدل: والشِّرك. قال الزَّركشيُّ: وهو أَلْيَقُ. وقال ابن بطَّالٍ: وهو الصَّواب، لكن قالَ الحافظ ابن حجرٍ: إنَّه لم يرها في شيءٍ من النُّسخ الَّتي وقف عليها (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) بالإفراد (وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) فإنَّما يعتبرُ ما ذُكر من الإكراهِ وغيره ممَّا(1) سبق بالنِّية، وإنَّما يتوجَّه على العاقلِ المختار العامد الذَّاكر.
          (وَتَلَا الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحِيْل؛ قرأَ قوله تعالى مُستدلًّا لعدمِ وقوعِ طلاقِ المخطئ والنَّاسي: ({لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[البقرة:286]) وهذا وصلَه هَنَّادُ بنُ السَّريِّ الصَّغير في «فوائده»‼ (وَ) بيان (مَا لَا يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ المُوَسْوِسِ) بسينين مهملتين وفتح الواو الأولى وكسر الثانية.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ) بالزِّنا: (أَبِكَ جُنُونٌ؟) فقال: لا، الحديث الآتي إن شاء الله تعالى في «الحدودِ» [خ¦6815] بمباحثه بعون الله وفضلهِ.
          (وَقَالَ عَلِيٌّ) ☺ : (بَقَرَ) بالموحدة والقاف المخففة، شقَّ (حَمْزَةُ) بن عبد المطَّلب (خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ) بفتح الفاء وتشديد التحتية، تثنية شارفٍ: النَّاقة المسنَّة (فَطَفِقَ) شرعَ أو جعل (النَّبِيُّ صلعم يَلُومُ حَمْزَةَ) على فعله ذلك (فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ) بفتح المثلثة وكسر الميم، سَكِر مبتدأ وخبر (مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ) خبرٌ بعد خبرٍ (ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ) ☺ : (هَلْ) ولأبي ذرٍّ وابن عساكرَ: ”وهل“ (أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لأَبِي؟! فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلعم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ) سَكِر (فَخَرَجَ) صلعم من عند حمزة (وَخَرَجْنَا مَعَهُ) أي: ولم يؤاخذهُ، فتمسَّك به من قال بعدمِ مؤاخذة السَّكران بما يقعُ منه حال سُكره من طلاقٍ وغيره.
          وقد سبق هذا الحديث موصولًا في «غزوة بدرٍ» من «المغازي» [خ¦4003].
          (وَقَالَ عُثْمَانُ) بن عفَّان ☺ : (لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طَلَاقٌ) وصلَه ابنُ أبي شيبة.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ممَّا وصله سعيد بنُ منصورٍ، وابنُ أبي شيبة بمعناه: (طَلَاقُ السَّكْرَانِ وَالمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ) أي: ليس بواقعٍ؛ إذ لا عقلَ للسَّكران المغلوب على عقلهِ، ولا اختيارَ للمستكرَه.
          (وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الجهنيُّ: (لَا يَجُوزُ) أي: لا يقعُ (طَلَاقُ المُوَسْوِسِ) لأنَّ الوسوسةَ حديث النَّفس، ولا مؤاخذةَ(2) بما يقعُ في حديث النَّفس.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو ابنُ أبي رباح، ممَّا سبق في «الشُّروط في الطَّلاق» [خ¦54/11-4259] (إِذَا) أراد أن يطلِّق و(بَدَأ بِالطَّلَاقِ) قبل الشُّروط(3) بأن قال: أنت طالقٌ إن دخلت الدَّار (فَلَهُ شَرْطُهُ) كما في العكس، بأن يقول: إن دخلتِ الدَّار فأنت طالقٌ، فلا يلزم تقديم الشَّرط على الإطلاقِ بل يصحُّ سابقًا ولاحقًا، وإن قال ابتداءً من غير ذكر شرطٍ مُقتصرًا عليه: فأنت طالقٌ، وقال: أردت الشَّرط فسبق لساني إلى الجزاء لم يُقبل منه ظاهرًا لأنَّه متَّهمٌ وقد خاطبها بصريحِ الطَّلاق، والفاء تُزاد في غيرِ الشَّرط، وإن قال: إن دخلتِ الدَّار أنت طالقٌ _بحذف الفاء_ فهو تعليقٌ.
          (وَقَالَ نَافِعٌ) مولى ابنِ عمر لابن عمرَ: إذا (طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ البَتَّةَ(4)) نصبٌ على المصدرِ، أي: طلاقًا بائنًا (إِنْ خَرَجَتْ) أي: من الدَّار ما حُكمه (فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ : (إِنْ خَرَجَتْ) أي: من الدَّار (فَقَدْ بُتَّتْ مِنْهُ‼) بضم الموحدة وتشديد الفوقية الأولى، أي: انقطعتْ منه فلا رجعةَ له فيها، ولأبي ذرٍّ: ”إن خرجْتِ فقد بِنْتِ“ بموحدة مكسورة فنون ساكنة ففوقية مكسورة (وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ(5)) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”وإن لم تخرجي منها“ (فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) لعدمِ وجود الشَّرط.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلمٍ ابن شهابٍ (فِيمَنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثلاثًا يُسْألُ عَمَّا قَالَ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ اليَمِينِ، فَإِنْ سَمَّى أَجَلًا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ جُعِلَ) بضم الجيم وكسر العين (ذَلِكَ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ) أي: يدين فيما بينهُ وبين الله تعالى، قال في «الفتح»: أخرجَهُ / عبد الرَّزَّاق عن مَعمر، عن الزُّهريِّ مختصرًا، ولفظه: في الرَّجلين يحلفان بالطَّلاق والعِتاق على أمرٍ يختلفان فيه، ولم تقمْ على واحدٍ منها(6) بيِّنةٌ على قوله قال: يدينان ويحمَّلان من ذلك ما تحمَّلا.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) النَّخعيُّ: (إِنْ قَالَ) لامرأته: (لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ) تعتبَر (نِيَّتُهُ) فإن نوى الطَّلاق طُلِّقت وإلَّا فلا، رواهُ ابنُ أبي شيبةَ (وَطَلَاقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ) عجميًّا أو غيره، وهذا وصلَه ابن أبي شيبة أيضًا. وقال في «الروضة»: ترجمة لفظ الطَّلاق بالعجميَّة وسائر اللُّغات صريحٌ على المذهب لشهرةِ استعمالها في معناها عندَ أهل تلك اللُّغات كشهرة العربيَّة عند أهلها، وقيل: وجهان ثانيهما أنَّها كناية.
          (وَقَالَ قَتَادَةُ) بن دعامة ممَّا وصله ابنُ أبي شيبة: (إِذَا قَالَ) الرَّجل لامرأتهِ: (إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، يَغْشَاهَا) أي: يجامعها (عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً) واحدةً (فَإِنِ اسْتَبَانَ) ظهر (حَمْلُهَا فَقَدْ بَانَتْ) طلِّقت (مِنْهُ) ثلاثًا وهو قول الجمهور، وقال المالكيَّة: يحنثُ بالوطء من(7) بعد التَّعليق استبان بها حملٌ أم لا. رواه ابنُ القاسم لأنَّ الحملَ موقوفٌ على سببٍ، والسَّبب بيد الحالفِ إن شاء أوقعَهُ وإن شاءَ لم يوقعْه؛ وهو الوطءُ، واختلفَ بعد الوطء فقال في «المدوَّنة»: يعجَّل عليه الطَّلاق بأثرِ الوطء. وقال ابنُ الماجِشُون: لا يعجَّل عليه ويُنْتظر ثمَّ يطؤها في كلِّ طهرٍ مرَّةً، وقال أشهبُ: لا شيءَ عليه حتَّى يكون ما شرط، وقال ابنُ يونس: فوجه قول ابن القاسم أنَّه إذا وطِئها صار حملها مشكوكًا فيه، فيعجَّلُ الطَّلاق لأنَّ كلَّ مَن شكَّ هل حنثَ أم لا فهو حانثٌ(8)، وَوَجْهُ قولِ أشهبَ أنَّ مِنْ أصْلِه: أنَّه لا يطلِّق إلَّا على‼ مَن علَّق على آتٍ لا بدَّ منه، ووجه قولِ ابن الماجِشُون أنَّه لا يحصلُ الحمل من كلِّ وطءٍ، فوجب أن لا تُطلَّق عليه حتَّى يختبر أمر هذا الوطءِ ويُمسك عن وطئها؛ إذ لا يدري هل حملتْ منه أم لا، وسقطَ لأبي ذرٍّ لفظ «منه» وهذا وصلَه ابنُ أبي شيبة.
          (وَقَالَ الحَسَنُ) البصريُّ فيما وصله عبد الرَّزَّاق: (إِذَا قَالَ) لامرأتهِ: (الحَقِي) بكسر أوله وفتح ثالثه، وقيل عكسه (بِأَهْلِكِ. نِيَّتُهُ) إن نوى الطَّلاق وقع، وإلَّا فلا.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ) بفتحتين، حاجة، فلا يطلِّق الرَّجل إلَّا عند الحاجة كالنُّشوز (وَالعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ) فهو مطلوبٌ دائمًا.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلم: (إِنْ قَالَ) لامرأته: (مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي) تعتبر (نِيَّتُهُ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا فَهْوَ مَا نَوَى) وهذا وصله ابنُ أبي شيبة عن عبد الأعلى، عن مَعمر، عن الزُّهريِّ، وكذا من طريق قتادة لكنَّه قال: إذا واجهها(9) به وأرادَ الطَّلاق فواحدة، وقال الحنفيَّة: إذا قال: لست لي بامرأةٍ، وما أنا لك بزوجٍ، ونوى الطَّلاق يقع عندَ أبي حنيفة. وقال صاحباهُ: لا لأنَّ نفيَ النِّكاح ليس بطلاقٍ(10)، بل كذبٌ، فهو كقوله: واللهِ لم أتزوَّجك، أو والله ما أنت لي بامرأةٍ. وقال المالكيَّة: إن قال لامرأتهِ(11): لست لي بامرأةٍ، أو ما أنت لي بامرأةٍ، أو لم أتزوَّجك فلا شيءَ عليه في ذلك(12) إلَّا أن ينويَ به الطَّلاق.
          (وَقَالَ عَلِيٌّ) ☺ فيما وصلَه البغويُّ في «الجعديَّات» عن عليِّ بن الجعدِ، عن شُعبة، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عبَّاس: أنَّ عمرَ أُتي بمجنونةٍ قد زنتْ وهي حُبلى، فأراد أن يرجمَها، فقال له عليٌّ: (أَلَمْ تَعْلَمْ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”ألم ترَ“ (أَنَّ القَلَمَ رُفِعَ(13)) وفي «الجعديَّات»: «أمَّا بلغك أنَّ القلم قد وُضع» (عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ) من جنونهِ (وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ) الحُلُم (وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ) من نومه. ورواه جرير بن حازمٍ، عن الأعمش، فصرَّح فيه بالرَّفع، أخرجه أبو داود وابن حبَّان من طريقه، وأخرجه النَّسائيُّ من وجهين آخرين، عن أبي ظَبْيان، عن عليٍّ مرفوعًا وموقوفًا، ورُجِّح الموقوف على المرفوعِ، وقد أخذ بمقتضَى هذا الحديث الجمهورُ فشرطوا في المطلِّق _ولو بالتَّعليق_ أن يكون مكلَّفًا فلا يصحُّ من غيرهِ.
          (وَقَالَ عَلِيٌّ) ☺ فيما وصله البغويُّ في «الجعديَّات» أيضًا: (وَكُلُّ الطَّلَاقِ) ولأبي ذرٍّ: ”وكلُّ طلاقٍ“ (جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ / المَعْتُوهِ) بفتح الميم وسكون العين المهملة وضم الفوقية وبعد الواو هاء، وفيه حديثٌ مرفوعٌ عند التِّرمذيِّ من حديث‼ أبي هريرة مرفوعًا: «كلُّ طلاقٍ جائِزٌ إلَّا طلَاقَ المعتُوهِ المغلُوبِ علَى عقلِهِ» لكنَّه من رواية عطاء بن عجلانَ، وهو ضعيفٌ جدًا. والمعتوهُ كالمجنون في نقصِ العقل فمنه الطِّفل والمجنون والسَّكران، وقيل: المعتوهُ: القليلُ الفَهم، المختلطُ الكلام، الفاسدُ التَّدبير، فهو كالمجنون، لكنَّه لا يضربُ ولا يشتمُ بخلافِ المجنون. والعاقل: مَن يستقيمُ كلامه وأفعاله إلَّا نادرًا، والمجنون ضدُّه، والمعتوه من(14) يكون ذلك منه على السَّواء. وهذا يؤدِّي إلى أن لا يحكم على أحدٍ بالعَتَهِ، والقول بأنَّه القليل الفَهم إلى آخره أولى، وقيل: من يفعلُ(15) فعلَ المجانين عن قصدٍ مع ظهورِ الفساد، والمجنون بلا قصدٍ والعاقل خلافهما، وقد يفعلُ فعلَ المجانين على(16) ظنِّ الصَّلاح أحيانًا، وقد علم أنَّ التَّصرُّفات لا تنفذُ إلَّا ممَّن له أهليَّة التَّصرُّف، ومدارها العقلُ والبلوغ، خصوصًا ما هو دائرٌ بين الضَّرر والنَّفع، خُصوصًا ما لا يحلُّ إلَّا لانتفاءِ مصلحةِ ضدِّهِ القائمِ كالطَّلاق فإنَّه يستدعي تمام العقل ليُحْكِمَ به التَّمييز في ذلك الأمر، ولم يكفِ(17) عقلُ الصَّبي العاقلِ لأنَّه لم يبلغِ الاعتدال، بخلافِ ما هو حسنٌ لذاتهِ بحيث لا يقبلُ حُسْنه السُّقوط وهو الإيمان، حتَّى صحَّ من الصَّبيِّ العاقل، ولو فُرض لبعض الصِّبيان المراهقين عقلٌ جيِّدٌ لا يعتبر في التَّصرفات لأنَّ المدارَ البلوغُ لانضباطهِ فتعلَّق به الحكم، وبهذا يبعدُ ما نُقل عن ابن المسيَّب أنَّه إذا عَقَل الصَّبيُّ الطَّلاق جازَ طلاقه، وعن ابنِ عمر جواز طلاق الصَّبيِّ ومرادُه العاقل، ومثلُه عن(18) الإمامِ أحمد، والله أعلم بصحَّة هذه(19) النُّقول، قاله الشَّيخ كمال الدِّين ابن الهمام ⌂ .
          وعن ابن عبَّاسٍ عند ابنِ أبي شَيبة: «لا يجوزُ طلاق الصَّبيِّ» وسبقَ في هذا الباب قول عثمان: «ليس لمجنونٍ، ولا لسكرانَ طلاقٌ». وزيادة ابن عبَّاسٍ: «المستكرَه». وفي مسألة السَّكران خلافٌ عالٍ(20) بين التَّابعين ومَن بعدهم، فقال بوقوعهِ من التَّابعين: سعيد بن المسيَّب، وعطاء، والحسن البصريُّ، وإبراهيم النَّخعيُّ، وابنُ سيرين، ومجاهدٌ، بل قال به من الصَّحابة عثمانُ وابنُ عبَّاسٍ كما مرَّ، وبه قال مالك والشَّافعيُّ وأحمدُ في روايةٍ مشهورةٍ عنه والحنفيَّة، فيصحُّ منه مع أنَّه غير مكلَّفٍ تغليظًا عليه، ولأنَّ صحَّته من قبيلِ ربط الأحكامِ بالأسبابِ كما قاله الغزاليُّ في «المستصفى»، وأجابَ عن قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}[النساء:43] الَّذي استندَ إليه الجُوينيُّ وغيره في تكليفِ السَّكران لأنَّ المرادَ به من هو في أوائل السُّكر، وهو المنتشِي لبقاءِ عقله، وانتفاءِ تكليف السَّكران(21) لانتفاء الفَهم الَّذي هو شرط التَّكليف، والمراد بالسَّكران الَّذي يصحُّ طلاقُه ونكاحُه، ونحوهما من زالَ عقلهُ بما أثمَ به من شُربٍ مُسكرٍ متعدٍّ بشربه.
          وقال ابن الهمام: وكونُ(22) زوالِ عقلِه بسببٍ هو معصيةٌ لا أثرَ له، وإلَّا صحَّتْ‼ ردَّتُه، ولا تصحُّ. قلنا: لمَّا خاطبه الشَّرع في حالِ سُكره بالأمر والنَّهي بحكمٍ فرعيٍّ عَرفنا أنَّه اعتبرهُ كقائم العقلِ تشديدًا عليه في الأحكامِ الفرعيَّة، وعقلنا أنَّ ذلك يناسبُ كونه تسبَّب في زوالِ عقله بسببٍ محظورٍ وهو مختارٌ فيه، وعلى هذا اتَّفق فتاوى مشايخ المذهبين من الشَّافعيَّة والحنفيَّة بوقوع طلاقِ من غابَ عقله بأكل الحشيشةِ وهي المسمَّاة(23) بورق القِنَّب لفتواهم بحرمتها(24) بعد أن اختلفوا فيها، فأفتى المُزنيُّ بحرمتها، وأفتى أسد بن عَمرو بحلِّها لأنَّ المتقدِّمين لم يتكلَّموا فيها بشيءٍ لعدم ظهور شأنها فيهم، فلمَّا ظهر من أمرها(25) من الفساد كثيرٌ(26) وفشا عادَ مشايخُ المذهبين إلى حُرمتها، وأفتوا بوقوع الطَّلاق ممَّن زال عقلُه بها إذا استعملها مختارًا.
          أمَّا إذا أُكره على شرب مُسكرٍ، ولم يعلم أنَّه مُسكرٌ فلا يقعُ طلاقه لعدم تعدِّيه، والرُّجوع في معرفة السُّكر إلى العُرف. ولو قال: إنَّما شربتُ الخمر مُكرهًا وثمَّ قرينة، أو لم أعلم أنَّ ما شربتُه مُسكرٌ صدِّق بيمينهِ، قاله الأذرعيُّ. وأمَّا المُكره فعند الشَّافعيَّة لا يصحُّ طلاقُه لحديث: «ومَا استكرهُوا عليهِ» وحديث: «لَا طلَاقَ فِي إغلَاقٍ» أي: إكراهٍ. رواه أبو داود والحاكمُ وصحَّح إسناده. وحدُّ الإكراهِ أن يُهدِّد المكرَه قادرٌ على الإكراهِ بولايةٍ أو تَغَلُّبٍ عاجلًا ظلمًا، وعجزَ المكرَه عن دفعهِ بهربٍ وغيرهِ كاستغاثةٍ بغيرهِ، وَظَنَّهُ أنَّه إن امتنعَ من فعلِ ما أُكره عليه حقَّق ما هدَّدهُ به، ويحصلُ بتخويفٍ بمحذورٍ كضربٍ شديدٍ، أو إتلافِ مالٍ، ويختلفُ باختلافِ طبقات / النَّاس وأحوالهِم، فلا يحصلُ الإكراهُ بالتَّخويف بالعقوبةِ الآجلة، كقوله: لأضربنَّك غدًا، ولا بالتَّخويف المستحقِّ، كقوله لمَن له عليه قصاصٌ: طلِّقها وإلَّا اقتصصتُ منك، فإن ظهرَ من المكَرهِ قرينة اختيار منه للطَّلاق كأن أُكْره على ثلاثٍ من الطَّلْقات(27)، أو على صريحٍ، أو تعليقٍ، أو طلاقِ مُبهمةٍ، فخالفَ بأن وحَّد، أو ثنَّى، أو كنَّى، أو نجَّز، أو طلَّق مُعيَّنةً وقعَ الطَّلاق، وقال الحنفيَّة: يقعُ طلاقُ المُكره لأنَّ المكره مختارٌ في التَّكلُّم اختيارًا كاملًا في السَّبب إلَّا أنَّه غير راضٍ بالحكمِ لأنَّه عرف الشَّرَّين فاختارَ أهونهما عليهِ.


[1] في (م): «ما».
[2] في (د): «يؤاخذ».
[3] في (م) و(د): «الشرط».
[4] قوله: «البتة» قال الكِرماني: نصب على المصدر، وقال النحاة: قطع همزة البتة بمعزل عن القياس.
وفي دعوى أنها تقال بالقطع نظرٌ؛ فإن ألف «البتة» ألف وصل قطعًا، والَّذي قاله أهل اللغة «ألبتة القطع» وهو تفسيرها بمرادفها، لا أنَّ المراد أنَّها تقال بالقطع.
[5] في (م) زيادة: «منها».
[6] في (د): «منهما».
[7] «من»: ليست في (م) و(د).
[8] في (م) زيادة: «وقال».
[9] في (ص): «وجهها».
[10] في (م): «طلاق»، وفي (د): «طلاقًا».
[11] في (م) و(د): «لها».
[12] «في ذلك»: ليست في (ب).
[13] في (م) و(د): «قد رفع».
[14] «من»: ليست في (ص).
[15] في (م): «فعل».
[16] في (د): «عن».
[17] في (م): «يكن».
[18] في (م) و(د): «عند».
[19] «هذه»: ليست في (د).
[20] «عال»: ليست في (م) و(د).
[21] «لأنَّ المراد به مَن هو في أوائل السُّكر، وهو المنتشي لبقاء عقله، وانتفاء تكليف السَّكران» ليس في (د).
[22] «وكون»: ليست في (ص).
[23] في (د): «الحشيش وهو المسمى».
[24] في (م) و(ص) و(د): «بحرمته».
[25] في (م) و(د) زيادة: «فيهم».
[26] في (م): «كثر».
[27] في (م) و(د): «التطليقات».