إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}

          ░40▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ}) المدخول بهنَّ من ذواتِ الحيض ({يَتَرَبَّصْنَ}) ينتظرنَ ({بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}[البقرة:228]) بعد الطَّلاق، وهو خبرٌ بمعنى الأمر، وأصل الكلام: ولْتتربَّص(1) المطلَّقات، وذكر الأمر بصيغةِ الخبر تأكيدًا للأمرِ وإشعارًا بأنَّه ممَّا يجب أن يتلقَّى بالمسارعة إلى امتثاله، ونحوه قوله في الدُّعاء: رحمك الله، أخرجه في صورةِ الخبر ثقةً بالاستجابةِ، كأنَّما وُجِدَت الرَّحمة وهو مخبرٌ عنها، وفي ذكر الأنفسِ تهييجٌ لهنَّ على التَّربُّص وزيادةُ بَعْثٍ لأنَّ أنفس النِّساء طوامحٌ إلى الرِّجال، فأُمِرن أن يقمعْنَ أنفسهنَّ ويغلبنَها على الطُّموح ويجبرنَهَا على التربُّص، وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ} يتعدَّى بنفسه، لأنَّه بمعنى ينتظرنَ(2)، ويُحتمل أن يكون مفعول التَّربُّص محذوفًا، تقديره: يتربَّصْنَ الأزواجَ. وثلاثة قُرُوء على هذا نصبٌ على الظَّرف لأنَّه اسم عددٍ مضاف للظَّرف، والقروء جمع كَثرة، وهو(3) من ثلاثة إلى عشرة / ، يُميَّز بمجموعِ(4)‼ القلَّة، ولا يُعْدل عن القِلَّة في ذلك إلَّا عند عدم استعمالِ جمع القلَّة غالبًا، وجمع القلَّة هنا موجودٌ وهو أقراء، فالحكمةُ في الإتيان(5) بجمع الكثرة مع وجود القلِّة أنَّه لمَّا جَمَعَ المطلقات جَمَعَ القَرْءَ لأنَّ لكلِّ مطلَّقة تربُّص ثلاثة أقراء، فصارتْ كثرةً بهذا الاعتبار، وسقط لفظ «باب» لأبي ذر(6).
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) النَّخعيُّ فيما وصله ابنُ أبي شيبة (فِيمَنْ تَزَوَّجَ) امرأة (فِي العِدَّةِ) تزويجًا فاسدًا (فَحَاضَتْ عِنْدَهُ) أي: عند الثَّاني (ثَلَاثَ حِيَضٍ بَانَتْ) بانقضاء هذه العدَّة (مِنَ) الزَّوج (الأَوَّلِ، وَلَا تَحْتَسِبُ) بفتح الفوقيتين وكسر السِّين (بِهِ) بالحيض (لِمَنْ بَعْدَهُ) لمن بعد الأوَّل بل تعتد أخرى للثَّاني، فلا تداخل لتعدد المستحقِّ فتعتدُّ لكلِّ واحدٍ منهما عِدَّة كاملة، وروى المدنيُّون عن مالك: إن كانت حاضتْ حيضةً أو حيضتين من الأوَّل أنَّها تتمُّ بقية عدَّتها منه، ثمَّ تستأنف عِدَّة أُخرى، وهو قول الشَّافعيِّ وأحمد.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلم: (تَحْتَسِبُ) بالحيض للثَّاني كالأوَّل، فيكفِي لهما عدَّةٌ واحدةٌ، وهو قول الحنفيَّة ورواية عن مالكٍ (وَهَذَا أَحَبُّ إِلَى سُفْيَانَ) الثَّوريِّ (يَعْنِي: قَوْلَ الزُّهْرِيِّ) لأنَّ الأوَّل لا ينكِحُها في بقيَّة العدَّة من الثَّاني، فدلَّ على أنَّها في عِدَّة الثَّاني، ولولا ذلك لنكحَهَا في عدَّتها منه.
          (وَقَالَ مَعْمَرٌ) هو: أبو عبيدة(7) بنُ المثنَّى: (يُقَالُ: أَقْرَأَتِ المَرْأَةُ إِذَا دَنَا) قَرُب (حَيْضُهَا، وَأَقْرَأَتْ إِذَا دَنَا) قَرُب (طُهْرُهَا) فيستعمل في الضِّدَّين، لكن المراد بالقرء عند الشَّافعيَّة: الطُّهر لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}[الطلاق:1] أي: في زمنها وهو زمنُ الطُّهر؛ إذ الطَّلاق في الحيض مُحرَّمٌ كما سبق، ولأنَّ القُـَر♣ء مأخوذٌ من قولهم(8): قَرأتُ الماء في الحوض، أي: جمعتهُ فيه، فالطُّهر أحقُّ باسم القَرء لأنَّه زمنُ اجتماع الدَّم في الرَّحم، والحيض: زمنُ خروجهِ منه، فينصرفُ إذن إلى زمن الطُّهر الَّذي هو زمنُ العدَّة وزمنها يعقبُ زمن الطَّلاق، والطُّهر ما احتوشَه دَمَان، أي: دما حيضتين، أو حيضٍ ونفاسٍ لا مجرَّد الانتقال إلى الحيضِ، فإن طلَّقها في الطُّهر ولو بقي منه لحظةٌ أو جامعَها فيه انقضتْ عدَّتُها بالطَّعن في الحيضةِ الثَّالثة، ولا يبعدُ تسمية قرأين(9) وبعضُ الثَّالث ثلاثة أقراء كما يقال: خرجتُ من البلدِ لثلاثٍ مَضين مع وقوعِ خروجهِ في الثَّالثة، وكما في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}[البقرة:197] مع أنَّ المراد: شوَّال وذو القَـِعد♣ة وبعض ذي الحجَّة، ولأنَّا لو لم نعتد بالباقي قُرْءًا لكان أبلغ في تطويلِ العدَّة عليها من الطَّلاق في الحيض، أو طلَّقها في الحيضِ فبالطَّعن‼ في الحيضةِ الرَّابعة انقضتْ عدَّتها (وَيُقَالُ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًا قَطُّ إِذَا لَمْ تَجْمَعْ(10) وَلَدًا فِي بَطْنِهَا) بكسر الباء الموحدة وفتح السين والتَّنوين من غير همزٍ في قوله: بِسَلا، غشاءُ الولد.
          وسبق في أوائل «سورة النُّور».


[1] في (د): «وليتربصن».
[2] في (س): «انتظر».
[3] «هو»: ليست في (س).
[4] في (د): «مجموع».
[5] في (م) و(د): «بالإتيان».
[6] «وسقط لفظ «باب» لأبي ذرٍّ»: ليست في (ص).
[7] في (ص) و(ب) و(س) و(د): «عبيد».
[8] في (ص): «من قولهن».
[9] في (د): «قرين».
[10] في (م): «يجتمع».