إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب الخلع

          ░12▒ (بابُ الخُلْعِ) بضم الخاء المعجمة وسكون اللام، مأخوذٌ من الخَلع _بفتح الخاء_ وهو النَّزع‼، سمِّي به لأنَّ كلًّا من الزَّوجين لباسُ الآخر في المعنى. قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}[البقرة:187] فكأنَّه بمفارقة الآخر نُزع لباسه، وضُمَّ مصدره تفرقةً بين الحسيِّ والمعنويِّ (وَكَيْفَ الطَّلَاقُ فِيهِ) أي: حكمه، هل يقع بمجرَّده، أو بذكرِ الطَّلاق باللَّفظ، أو بالنيَّة خلافٌ. وتعريف الخُلع: فِراقُ زوجٍ يصحُّ طلاقُه لزوجتهِ بعوضٍ يحصلُ لجهة الزَّوج بلفظِ طلاقٍ وخلعٍ، والمرادُ ما يشملهُما وغيرهما من ألفاظِ الطَّلاق، والخُلعُ صريحٌ وكنايةٌ كالفراق والإبانةِ والمفاداةِ، وخرج بجهةِ الزَّوج تعليقُ طلاقِهَا بالبراءةِ عمَّا لها(1) على غيرهِ، فيقعُ الطَّلاق في ذلك رجعيًّا، فإن وقعَ بلفظ الخُلع ولم ينوِ به طلاقًا فالأظهرُ أنَّه(2) طلاقٌ يُنقص العدد، وكذا إنْ وقعَ بلفظ الطَّلاق مقرونًا بالنِّيَّة، وقد نصَّ في «الإملاءِ» أنَّه من صرائحِ الطَّلاق، وفي قول: إنَّه فسخٌ وليس بطلاقٍ لأنَّه فراقٌ حصلَ بمعاوضةٍ فأشبَه ما لو اشترى زوجتَهُ، ونصَّ عليه في القديم، وصحَّ عن ابن عبَّاسٍ فيما أخرجه عبد الرَّزَّاق، وهو مشهورُ مذهبِ الإمام أحمد لحديث الدَّارقطنيِّ عن طاوس، عن ابن عبَّاسٍ: «الخُلعُ فرقَةٌ، وليسَ بطلَاقٍ» أمَّا إذا نوى به الطَّلاق فهو طلاقٌ قطعًا عملًا بنيَّته، فإن لم ينوِ به(3) طلاقًا لا تقع به فرقةٌ أصلًا، كما نصَّ عليه في «الأمِّ» وقوّاه السُّبكيُّ، فإن وقعَ الخُلع بمسمًّى صحيحٍ لزمَ، أو بمسمًّى فاسدٍ كخمرٍ وجب مهرُ المثل.
          (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على الخلعِ المضاف إليه الباب، ولأبي ذرٍّ: ”وقوله(4) ╡“: ({وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ}) أيُّها الأزواج أو الحكَّام لأنَّهم الآمرونَ بالأخذِ والإيتاءِ عند التَّرافع إليهم، فكأنَّهم الآخذونَ والمؤتون ({أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا}) ممَّا أعطيتموهنَّ من المهورِ(5) ({إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ}[البقرة:229]) أي: إلَّا أن يعلمَ الزَّوجان تركَ إقامةِ حدودِ الله فيما يُلزمهما من مواجبِ الزَّوجيَّة، لِمَا يحدثُ من نشوزِ المرأةِ وسوء خُلقها، وسياقُ الآية إلى {حُدُودَ اللّهِ} لأبي ذرٍّ، ولغيرهِ إلى قوله: ”{شَيْئًا}“ ثمَّ قال: ”إلى قوله: {الظَّالِمُونَ}“ وتمام المراد من الآية في قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} أي: لا جناح على الرَّجل فيما أخذَ، ولا(6) عليها فيما افتدتْ به نفسها واختلعتْ من بذلِ ما أوتيتْ من المهر، وفيه مشروعيَّة الخُلع، وقد أجمعَ عليه العلماء خلافًا لبكر بن عبدِ الله المُزنيِّ التَّابعيِّ، فإنَّه قال بعدمِ حلِّ أخذِ شيءٍ من الزَّوجة عوضًا عن فراقها مُحتجًّا بقولهِ تعالى: {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا}[النساء:20] فأوردَ عليه: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}[البقرة:229] فأجاب بأنَّها منسوخةٌ بآية النِّساء، وأُجيب / بقولهِ تعالى في سورة النِّساء أيضًا: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ}[النساء:4]‼ وبقولهِ تعالى(7) فيها: {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا} الاية[النساء:128] وقد انعقدَ الإجماع بعدَه على اعتبارهِ، وأنَّ آية النِّساء مخصوصةٌ بآية البقرةِ وبآيتي النِّساء الأُخريين، وقد تمسَّك بالشَّرط من قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} من منع الخُلع إلَّا إن حصلَ الشِّقاق بين(8) الزَّوجين معًا، والجمهورُ على الجواز على الصَّداق وغيره، ولو كان أكثر منه لكن تُكره الزِّيادة عليه كما في «الإحياء»، وعند الدَّارقطنيِّ، عن عطاء: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «لَا يأخُذُ الرَّجلُ منَ المُخْتَلِعةِ أكثَرَ ممَّا أعطَاهَا» ويصحُّ في حالتي الشِّقاق والوِفاق، فذكرُ الخوف في قوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَا} جريٌ على الغالب، ولا يكره عند الشِّقاق أو عند كَراهتها له لسوءِ خُلقهِ، أو دينهِ، أو عند خوفِ تقصيرٍ منها في حقِّه، أو عند حلفهِ بالطَّلاق الثَّلاث من مدخولٍ بها على فعلِ ما لا بدَّ له من فعله، وإن أكرهها بالضَّرب، ونحوه على الخُلع فاختلعتْ لم يصحَّ للإكراهِ، ووقعَ الطَّلاق رجعيًّا إن لم يسمِّ المال، فإن سمَّاه أو قال: طلَّقتك بكذا، وضربها لتقبل فقبلتْ لم يقعِ الطَّلاق لأنَّها لم تقبلْ مختارةً، والله أعلم.
          (وَأَجَازَ عُمَرُ) ☺ (الخُلْعَ دُونَ) حضور (السُّلْطَانِ) الإمام الأعظم، أو نائبهِ، أو بغير إذنهِ، وصله ابنُ أبي شَيبة في «مصنفه» ولفظه _كما قرأته فيه_: أُتي بشر بن مروان في خُلعٍ كان بين رجلٍ وامرأتهِ فلم يُجزه، فقال له عبدُ الله بن شهابٍ الخولانيُّ: شهدتُ عمرَ بن الخطَّاب أُتي بخلعٍ كان بين رجلٍ وامرأتهِ فأجازه.
          قال في «الفتح»: وأرادَ البخاريُّ بإيرادِ ذلك الإشارة إلى ما أخرجه سعيدُ بن منصورٍ: عن الحسن البصريِّ، قال: لا يجوزُ الخلع دون السُّلطان. ولفظ ابن أبي شيبة، قال: هو عند السُّلطان. واستدلَّ له أبو عُبيد بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ}[البقرة:229] وبقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}[النساء:35] قال: فجعلَ الخوف لغير الزَّوجين، ولم يقل: فإن خافا، قال: فالمراد الولاية(9). وردَّه النَّحَّاس بأنَّه قولٌ لا يساعده الإعرابُ ولا اللَّفظُ ولا المعنى، وإذا كان الطَّلاق جائزًا دون الحاكمِ فكذلك الخُلع، وأمَّا الآية فجرتْ على الغالب، كما مرَّ.
          (وَأَجَازَ عُثْمَانُ) ☺ (الخُلْعَ) ببذل كلِّ ما تملك (دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا) بكسر العين وفتح القاف آخره صاد مهملة: الخيط الَّذي تَعقص به أطرافَ رأسها.
          وهذا وصلَه أبو القاسم بن بِشران(10) في «أماليه»: عن الرُّبيِّع بنت مُعَوِّذ، قالت: «اختلعتُ من زوجِي بما دونَ عِقاص رأسِي فأجازَ ذلك عثمان» وأخرجه البيهقيُّ وقال في آخره: فدفعتُ إليه كلَّ شيءٍ حتَّى غلَّقتُ(11) البابَ بيني وبينه‼. وعند ابن سعدٍ: فقال عثمان _يعني: لزوج الرُّبيع_: خُذ كلَّ شيءٍ حتَّى عِقاصَ رأسها.
          (وَقَالَ طَاوُسٌ) فيما وصلَه عبد الرَّزَّاق عن ابن جُريجٍ، قال: أخبرني ابنُ طاوس، وقلتُ له: ما كان أبوك يقول في الفِداء؟ قال: كان يقولُ ما قال الله تعالى: ({إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ}) أي: (فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي العِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ) قال ابنُ طاوس: (وَلَمْ يَقُلْ) أي: طاوس (قَوْلَ السُّفَهَاءِ) القائلين أنَّه: (لَا يَحِلُّ) الخُلع (حَتَّى تَقُولَ) الزَّوجة: (لَا أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ) تريدُ منعه مِن وطئها، فتكون حينئذٍ ناشزًا، بل أجازهُ إذا لم تقمْ بما افترضَ عليها لزوجها في العِشرة والصُّحبة، ولعلَّه أشار إلى نحو ما روي عن الحسن في الآية، قال: ذلك في الخُلع إذا قالت: لا أغتسلُ لك من جَنابةٍ. رواه ابن أبي شَيبة. وعن الشَّعبيِّ _فيما أخرجه سعيد بن منصورٍ_: أنَّ امرأةً قالتْ لزوجها: لا أطيعُ لك أمرًا، ولا أبرُّ لك قسمًا، ولا أغتسلُ لك من جنابةٍ، قال: إذا كرهتْه فليأخذْ منها وليخلِّ عنها.


[1] في (د): «عن مالها».
[2] في (م) و(د) زيادة: «يقع».
[3] «به»: ليست في (د) (م) و(ص).
[4] في (م) و(د): «قول الله»، والمثبت موافق لحواشي اليونينية.
[5] في (د): «المهر».
[6] في (د): زيد «جناح».
[7] في (د): «وبقول الله تعالى».
[8] في (د): «من».
[9] في (م) و(د): «الولاة».
[10] في (ب): «سروان»، وهو تصحيف.
[11] في (د): «أجفت».