إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب اللعان

          ░25▒ (بابُ اللِّعَانِ) والقذف، واللِّعان: مصدر لَاعَنَ سماعيٌّ لا قياسيٌّ، والقياسُ الملاعنةُ، وهو من اللَّعن وهو الطَّرد والإبعادُ. يقال منه: التعَنَ، أي: لعنَ نفسَه، ولاعنَ إذا فَاعَلَ غيرَه منه، ورجل لُعَنة _بفتح العين وضم اللام_ كهُمَزة، إذا كان كثير اللَّعن لغيره، وبسكون العين إذا لعنَه النَّاسُ كثيرًا، الجمع: لُعَن، كصُرَدٍ، ولاعنَ امرأتَه ملاعنةً ولعانًا، وتلاعنا والتعنَا: لعنَ بعضٌ بعضًا، ولاعنَ الحاكم بينهما لعانًا حكمَ. وفي الشَّرع: كلماتٌ معلوماتٌ جُعلت حجَّةً للمضطَر إلى قذفِ من لطَّخ فراشَه وألحقَ العارَ به، أو إلى نفي(1) ولدٍ، سُمِّيت لعانًا لاشتمالها على كلمة اللَّعن تسميةً للكلِّ باسم البعض، ولأنَّ كلًّا من المتلاعنين يبعدُ عن الآخر بها؛ إذ يحرم النِّكاح بها أبدًا، واختيرَ لفظ اللِّعان‼ على لفظي الشَّهادة والغضبِ وإن اشتملتْ عليهما الكلمات أيضًا لأنَّ اللَّعن كلمةٌ غريبةٌ في قيام الحجج من الشَّهاداتِ والأيمان، والشَّيء يشهر بما يقعُ فيه من الغريب، وعليه جرتْ أسماء السُّور، ولأنَّ الغضبَ يقع في جانبِ المرأة، وجانب الرَّجل أقوى، ولأنَّ لعانه متقدِّمٌ(2) على لعانها، والتَّقدم من أسباب التَّرجيح.
          (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على سابقهِ المجرور بالإضافةِ: ({وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}) يقذفونَ زوجاتهم بالزِّنا ({وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء}) يشهدونَ على تصديقِ قولهم ({إِلَّا أَنفُسُهُمْ}) رفعٌ بدلٌ من «شهداء»، أو نعت له على أنَّ «إلَّا» بمعنى «غير» (إِلَى قَوْلِهِ) ╡: ({إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[النور:9]) وسقط لأبي ذرٍّ: «{وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ}» وساق في روايةِ كريمة الآيات كلَّها، ولمَّا كان قولُه: {يَرْمُونَ } أعمَّ من أن يكون باللَّفظ أو بالإشارةِ المفهمة قال: (فَإِذَا قَذَفَ الأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ) رماها بالزِّنا في معرض التَّعيير (بِكِتَابَةٍ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”بكتاب“ (أَوْ إِشَارَةٍ) مفهمةٍ باليد / (أَوْ بِإِيمَاءٍ(3)) بالرَّأس أو الجفن (مَعْرُوفٍ فَهْوَ كَالمُتَكَلِّمِ) بالقذف فيترتَّب عليه اللِّعان (لأَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَدْ أَجَازَ الإِشَارَةَ فِي الفَرَائِضِ) أي: في الأمورِ المفروضةِ، فإنَّ العاجز عن غيرِ الإشارة يصلِّي بالإشارةِ كالمصلوبِ (وَهْوَ) أي: العمل بالإشارةِ (قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الحِجَازِ وَأَهْلِ العِلْمِ) أي(4): من غيرهِمْ كأبي ثورٍ (وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}) أي: أشارتْ مريمُ إلى عيسى أن يجيبهم، ولمَّا أشارت إليه غضبوا وتعجَّبوا ({قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ}) حدث ووجد ({فِي الْمَهْدِ}) المعهود ({صَبِيًّا}[مريم:29]) حال {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ} لمَّا أسكتت بأمرِ الله لسانها النَّاطق أنطقَ الله لها اللِّسان السَّاكت حتَّى اعترفَ بالعبوديَّة، وهو ابنُ أربعين ليلةً أو ابن يومٍ، روي أنَّه أشار بسبَّابتيه، وقال بصوتٍ رفيعٍ: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ}. وأخرج ابنُ أبي حاتمٍ من طريق ميمون بن مهرانَ، قال: لمَّا قالوا لمريم: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}[مريم:27] إلى آخره أشارتْ إلى عيسى أن كلِّموه، فقالوا: تأمرنا أن نكلِّم مَن هو(5) في المهدِ زيادةً على ما جاءتْ به من الدَّاهية، ووجه الاستدلالِ به أنَّ مريمَ كانت نذرتْ أن لا تتكلَّم فكانت في حكمِ الأخرسِ، فأشارتْ إشارةً مفهمةً اكتفاءً بها عن معاودة سؤالها، وإن كانوا أنكروا عليها ما أشارتْ به.
          (وَقَالَ الضَّحَّاكُ) بن مزاحمٍ الهلاليُّ الخراسانيُّ، وقال في «الكواكب»: هو: الضَّحاكُ بن شراحيل، وتعقَّبه في «الفتح» بأنَّ المشهورَ بالتَّفسير إنَّما هو ابنُ مزاحمٍ مع وجودِ الأثر‼ مصرِّحًا فيه بأنَّه ابن مزاحمٍ فيما وصله عبدُ بن حميدٍ عنه في قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} ({إِلاَّ رَمْزًا}[آل عمران:41]) أي: (إِلَّا إِشَارَةً) وسقطَ لغير أبي ذرٍّ لفظ «إلَّا» واستثنى الرَّمز وهو ليس من جنسِ الكلام لأنَّه لمَّا أدَّى مؤدَّى الكلام وفهم منه ما يُفهم منه سمِّي كلامًا، وهو استثناءٌ منقطعٌ.
          (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) أي: الكوفيُّون مناسبةً لقوله وهو قول بعض أهلِ(6) الحجاز: (لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) بالإشارة من الأخرسِ وغيره إذا قذف زوجتَه وهو مذهبُ أبي حنيفة ⌂ ، وهذا نقضه البخاريُّ بقوله: (ثُمَّ زَعَمَ) الكوفيُّون أو الحنفيَّة (أَنَّ الطَّلَاقَ) إن وقع (بِكِتَابٍ) من المطلِّق (أَوْ إِشَارَةٍ) منه بيده (أَوْ إِيمَاءٍ) بنحو رأسه من غير كلامٍ (جَائِزٌ) فأقام ذلك مقامَ العبارة (وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ) أي بعض النَّاس: (القَذْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَلَامٍ قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لَا يَجُوزُ) لا يقع، ولأبي ذرٍّ: ”لا يكون“ (إِلَّا بِكَلَامٍ) وأنت وافقتَ على وقوعهِ بغير كلامٍ، فيلزمكَ مثله في اللِّعان والحدِّ (وَإِلَّا) بأن لم تعتبر الإشارة فيها كلِّها (بَطَلَ الطَّلَاقُ وَالقَذْفُ وَكَذَلِكَ العِتْقُ) بالإشارة، وحينئذٍ فالتَّفرقة بين القذف والطَّلاق بلا دليلٍ تحكُّم، وأجاب الحنفيَّة بأنَّ القذفَ بالإشارة ليس كالصَّريح بل فيه شبهةٌ والحدودُ تدرأُ بها، ولأنَّه لا بدَّ في اللِّعان من أن يأتِي بلفظ الشَّهادة حتَّى لو قال: أحلفُ مكان أشهدُ لا يجوزُ، وإشارته لا تكون شهادةً، وكذلك إذا كانت هي خرساء لأنَّ قذفَها لا يوجبُ الحدَّ لاحتمالِ أنَّها تصدِّقه(7) لو كانت تنطقُ، ولا تقدرُ على إظهارِ هذا التَّصديق بإشارتها، فإقامةُ الحدِّ مع الشُّبهة لا يجوزُ(8). انتهى. وأجابَ السَّفاقسيُّ بأنَّ المسألةَ مفروضةٌ فيما إذا كانت الإشارةُ مفهمةً إفهامًا واضحًا لا يبقى معه ريبةٌ (وَكَذَلِكَ الأَصَمُّ يُلَاعِنُ) إذا أشيرَ إليه وفهم (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) عامر بن شراحيل (وَقَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدوسيُّ فيما وصله ابنُ أبي شَيبة: (إِذَا قَالَ) الأخرسُ لامرأته: (أَنْتِ طَالِقٌ، فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ تَبِينُ) تطلَّق (مِنْهُ) طلاقًا بائنًا (بِإِشَارَتِهِ) بأصابعهِ الثَّلاث البينونة الكبرى، وأرادَ بقوله: «إذا قال» القولَ باليدِ فأطلقَ القولَ على الإشارةِ، أو المراد قول النَّاطق: أنت طالقٌ، وإشارتُه للعددِ(9) بالطَّلاق كما مرَّ تقريرهُ في أوَّل الباب الَّذي قبل هذا.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) النَّخعيُّ ممَّا وصله ابنُ أبي شيبة: (الأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ) وقال الشَّافعيُّ: إذا كتب الطَّلاق سواء‼ كان ناطقًا أو أخرس ونواهُ لزمه(10)، فلو كتبَ ولم ينوِ أو نوى فقط فلا (وَقَالَ حَمَّادٌ) هو ابنُ أبي سليمانَ، شيخُ الإمام أبي حنيفةَ: (الأَخْرَسُ وَالأَصَمُّ إِنْ قَالَ) أي: إن أشارَ كلٌّ منهما (بِرَأْسِهِ) فيما يسأل عنه (جَازَ) / أي: نفذَ ما أشارَ إليه وأقيمتِ الإشارةُ مقامَ العبارة.


[1] «نفي»: ليست في (د).
[2] في (د): «مقدم».
[3] في (ب): «إيماء».
[4] «أي»: ليست في (د) و(ص) و(م).
[5] «هو»: ليست في (د).
[6] «أهل»: ليست في (ب).
[7] في (د): «تصدق».
[8] في (ب) و(س): «تجوز».
[9] في (ص): «بالعدد».
[10] «لزمه»: ليست في (م) و(ص) و(د).