إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض

          5251- وبه قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الأُويسيُّ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (مَالِكٌ) هو ابنُ أنسٍ الإمامُ (عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ☻ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ) هي آمِنةُ _بمدِّ الهمزة وكسر الميم_ بنتُ غِفَارٍ _بكسر المعجمة وتخفيف الفاء_، أو بنتُ عَمَّارٍ _بعين مهملة‼ مفتوحة ثم ميم مشددة_. قال ابن حجرٍ: والأوَّل أولى. وفي «مسند أحمد» أنَّ اسمها النَّوَار، ويمكن أن يكون اسمها آمنة ولقبها النَّوَار (وَهْيَ حَائِضٌ) جملةٌ حاليَّةٌ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ) ☺ (رَسُولَ اللهِ صلعم عَنْ ذَلِكَ) عن حكم طلاقِ ابنهِ على الصِّفة المذكورة. زادَ الزُّهريُّ _كما في «التفسير»_ عن سالم: «أنَّ ابنَ عمر أخبره فتغيَّظ فيه رسول الله صلعم » [خ¦4908] (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) لعمر: (مُرْهُ) أصله: اُأْمره، بهمزتين الأولى للوصل مضمومة تبعًا للعين، مثل: اقتل، والثَّانية فاء الكلمة ساكنةٌ تبدَّل تخفيفًا من جنس حركةِ سابقتها، فتقول: أومر(1)، فإذا وصل الفعل بما قبله زالت همزةُ الوصل وسكِّنت الهمزةُ الأصليَّة كما في قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ}[طه:132]. لكن استعملها العربُ بلا همزةٍ(2)، فقالوا: مُر(3) لكثرة الدَّور، ولأنَّهم حذفوا أوَّلًا الهمزة الثَّانية تخفيفًا، ثمَّ حذفوا همزة الوصل استغناءً عنها لتحرُّك ما بعدها وكذا حكمُ أخذ وأكل، أي: مُر ابنك عبدَ الله (فَلْيُرَاجِعْهَا) والأمر للنَّدب عند الشَّافعيَّة والحنابلة والحنفيَّة. وقال المالكيَّة: وصحَّحه صاحبُ «الهداية» من الحنفيَّة للوجوب، ويجبر على مراجعتها ما بقي من العدَّة شيءٌ. قال ابنُ القاسم وأشهب وابنُ الموَّاز: يجبر عندنا بالضَّرب والسَّجن والتَّهديد. انتهى.
          لنا: قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}[البقرة:231] وغيرها من الآياتِ المقتضية للتَّخيير بين الإمساكِ بالرَّجعة أو الفراق بتركِها، فجمع بين الآيات والحديث بحملِ الأمر على النَّدب، ولأنَّ المراجعة لاستدراكِ النِّكاح، وهو غيرُ واجبٍ في الابتداء. قال الإمامُ: ومع استحبابِ الرَّجعة لا نقول إنَّ تركها مكروهٌ، لكن قال في «الرَّوضة»: فيه نظرٌ، وينبغي كراهته لصحَّة الخبر فيه ولدفع الإيذاءِ، ويسقط الاستحباب بدخول الطُّهر الثَّاني. وقال ابنُ دقيق العيد: ويتعلَّق بالحديث مسألةٌ أصوليَّةٌ، وهي / الأمر بالأمر بالشَّيء، هل هو أمرٌ بذلك الشَّيء أم لا؟ فإنَّ النَّبيَّ صلعم قال لعمر: «مُرْهُ» فأَمره بأَمره، وقد أطال في «الفتح» البحث في هذه المسألة، والحاصلُ: أنَّ الخطاب إذا توجَّه لمكلَّفٍ أن يأمر مكلَّفًا آخر بفعل شيءٍ، كان المكلَّفُ الأوَّل مبلِّغًا محضًا، والثَّاني مأمورٌ من قبل الشَّارع كما هنا، وإن توجَّه من الشَّارع لمكلَّفٍ أن يأمرَ غير المكلَّف كحديث: «مُرُوا أَولَادَكُم بالصَّلَاةِ لِسَبعٍ» لم يكن الأمر بالأمر‼ بالشَّيء أمرًا بالشَّيء لأنَّ الأولاد غير مكلَّفين، فلا يتَّجه عليهم الوجوب، وإن توجَّه الخطاب من غير الشَّارع بأمرِ مَن له عليه الأمر أن يأمرَ من لا أمر للأوَّل عليه، لم يكن الأمر بالأمر بالشَّيء أمرًا بالشَّيء أيضًا، بل هو مُتعدٍّ(4) بأمره للأوَّل أن يأمر الثَّاني.
          (ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا) بإعادة اللَّام ويجوز تسكينها كقراءةِ {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}[الحج:29] فالكسر على الأصل في لام الأمر فرقًا بينها(5) وبين لام التَّأكيد، والسكون للتَّخفيف إجراءً للمنفصلِ مجرى المتَّصل، والمرادُ الأمرُ باستمرار الإمساكِ لها، وإلَّا فالرَّجعة إمساكٌ، وفي رواية عُبيد الله بنِ عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ _عند مسلمٍ_: «ثمَّ ليدعها» (حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ) حيضةً أخرى (ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَـ)ـها (بَعْدُ) أي بعد الطُّهر من الحيض الثَّاني (وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَـ)ـها (قَبْلَ أَنْ يَمَسَّـ)ـها، أي: يُجامعها.
          واختلف في علَّة هذه الغاية، فقيل: لئلَّا تصير الرَّجعة لمجرَّد غرضِ الطَّلاق لو طلَّق في أوَّل الطُّهر؛ بخلاف الطُّهر الثَّاني، وكما(6) ينهى عن النِّكاح لمجرد الطَّلاق ينهى عن الرَّجعة له، ولا يستحبُّ الوطء في الطُّهر الأوَّل اكتفاءً بإمكان التَّمتُّع، وقيل: عقوبة وتغليظ، وعورض بأنَّ ابنَ عمر لم يكن يعلم تحريمَه. وأُجيب بأنَّ تغيُّظه(7) صلعم دون أن يعذره يقتضي أنَّ ذلك في الظُّهور لا يكاد يخفى على أحدٍ. وفي مسلمٍ من روايةِ محمَّد بنِ عبدِ الرَّحمن، عن سالمٍ: «مُره فَليراجِعها، ثمَّ ليُطلِّقها طاهرًا أو حاملًا». قال الشَّافعي وابنُ عبدِ البرِّ: رواه جماعةٌ غير(8) نافعٍ بلفظ: «حتَّى تطهُرَ منَ الحيضَةِ التِّي طلَّقَها فيها ثمَّ إنْ شَاءَ أمسَكَها» روايةُ يونس بن جبيرٍ وأنس بن سيرين وسالم، فلم يقولوا: ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر. نعم رواية الزُّهريِّ عن سالمٍ موافقةٌ لرواية(9) نافعٍ كما نبَّه عليه أبو داود، والزِّيادة من الثِّقة مقبولةٌ خصوصًا إذا كان حافظًا، واختلف في جواز تطليقها في الطُّهر الَّذي يلي الحَيضة التِّي وقع فيها الطَّلاق والرَّجعة، فقطع المتولِّي بالمنع، وهو الَّذي يقتضيه ظاهرُ الزِّيادة الَّتي في الحديث. وذكرَ الطَّحاويُّ أنَّه يطلِّقها في الطُّهر الَّذي يلي الحيضة. قال الكرخيُّ: وهو قول أبي حنيفة لروايةِ سالم، رواه مسلم وأبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابن ماجه؛ لأنَّ أثر الطَّلاق قد انعدم بالمراجعة فصار كأنَّه لم يطلِّقها. وقال أبو يوسف ومحمَّد: في طُهرٍ ثانٍ، أي: إذا طهرتْ من تلك الحيضة الَّتي وقع فيها الطَّلاق ثمَّ حاضت ثمَّ طهُرت.
          (فَتِلْكَ العِدَّةُ) أي: فتلك زمنُ العدَّة، وهي حالة الطُّهر (الَّتِي أَمَرَ اللهُ) أي: أذنَ (أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}. واستُدلَّ به على أنَّ القرءَ المذكور في قوله تعالى: {ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}[البقرة:228] المراد به الطُّهر، كما ذهب إليه مالك والشَّافعيُّ.
          وأمَّا الطَّلاق الواجب ففي الإيلاء على المُولِي لأنَّ المدَّة إذا انقضتْ وجب عليه الفيئةُ أو الطَّلاق. وفي الشِّقاق على الحكمين إذا أَمَرَا لِمَظْلومةٍ(10)، ولا بدعةَ فيه للحاجة إليه مع طلب الزَّوجة(11).
          وأمَّا المستحبُّ فعند خوف تقصيره في حقِّها لبُغضٍ أو غيره، أو بأن لا تكون‼ عفيفةً لحديث الرَّجل الَّذي قال: يا رسول الله إنَّ امرأتي لا تردُّ يد لامسٍ. فقال رسول الله صلعم (12): «طلِّقْهَا» والأمر للاستحبابِ، يدلُّ عليه قوله ╕ لمَّا أن قال له: إنِّي أحبُّها: «أَمْسِكْهَا» وألحق به ابنُ الرِّفعة طلاق الولد إذا أمره به والده لحديثِ الأربعةِ، وصحَّحه التِّرمذيُّ وابنُ حبَّان: أنَّ ابن عمر قال: كان تحتي امرأةٌ أحبُّها وكان عمر يكرهها، فقال: طلِّقْهَا، فأتيت النَّبيَّ صلعم فقال: «أَطِعْ أَبَاكَ».
          وأمَّا المكروهُ فعند سلامة الحال، لحديث: «ليسَ شَيءٌ مِن الحَلالِ أبغَضُ إِلى اللهِ مِن الطَّلاقِ».
          وأمَّا المباح فطلاقُ من أُلقي عليه عدم اشتهائها، بحيث يعجزُ أو يتضرَّر بإكراههِ نفسَه على جماعها، فهذا إذا وقع فإن كان قادرًا على طَول غيرها مع / استبقائها ورضيتْ بإقامتها في عِصمته بلا وطءٍ أو بلا قسمٍ فيكره طلاقُها، كما كان بين رسول الله صلعم وبين سودة، وإن لم يكن قادرًا على طَولها أو لم ترضَ هي بترك حقِّها فهو مباحٌ لأنَّ مقلِّب القلوب ربُّ العالمين.
          وهذا الحديثُ أخرجه مسلم، وأبو داود، والنَّسائيُّ في «الطَّلاق».


[1] في (م) و(د): «أومره».
[2] في (د): «بلا همز».
[3] في (م) و(د): «مره».
[4] في (م): «معتد».
[5] في (م): «بينهما».
[6] في (ص): «لا».
[7] في (د): «تغليظه».
[8] في (م) و(د): «عن».
[9] في (ص): «كرواية».
[10] في (س): «أمر المظلومة».
[11] عبارة «أسنى المطالب» للشيخ زكريا الأنصاري: «وقد يجب الطلاق في الإيلاء على المولي، وفي الشقاق على الحكمين إذا أمر المطلِّق به، فلا بدعة فيه للحاجة إليه مع رضا الزوجة به».
[12] في (س) و(ص): «فقال ╕ ».