إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب من قال لامرأته: أنت علي حرام

          ░7▒ (بابُ مَنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. وَقَالَ الحَسَنُ) البصريُّ فيما(1) وصله عبد الرَّزَّاق: (نِيَّتُهُ) أي: فإن نوى طلاقًا وإن تعدَّد أو ظهارًا وقع المنويُّ لأنَّ كلًّا منهما يقتضي التَّحريم، فجاز أن يُكنَّى عنه بالحرام أو نواهما معًا أو مرتبًا تخيَّر، وثبتَ ما اختارهُ منهما ولا يثبتان جميعًا لأنَّ الطَّلاق يزيلُ النِّكاح، والظِّهار يستدعِي بقاءه، هذا مذهبُ الشَّافعيَّة. وقال الحنفيَّة: إنْ نوى واحدةً فهي بائنٌ، وإن نوى ثنتين فهي واحدةٌ بائنةٌ، وإن لم ينوِ طلاقًا فهي يمينٌ ويصير مولِيًا. وقال المالكيَّة: يقع ثلاثًا ولا يسأل عن نيَّته، ولهم في ذلك تفاصيل يطولُ ذكرها.
          (وَقَالَ أَهْلُ العِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثلاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ) أي: حتَّى تنكِح زوجًا غيره (فَسَمَّوْهُ حَرَامًا) بالتَّصريح (بِالطَّلَاقِ وَالفِرَاقِ) بأن يتلفَّظ بأحدهما أو يقصدُه، فلو أطلق(2) أو نوى غير الطَّلاق فهو محلُّ النَّظر، وقال صاحب «المصابيح» من المالكيَّة: يعني: فإذا كانت الثَّلاث تحريمًا كان التَّحريم ثلاثًا. قال: وهذا غير ظاهرٍ لجواز أن يكون بينهما عمومٌ وخصوصٌ، كالحيوان والإنسان، وحاول ابن المنيِّر الجواب عن البخاريِّ بأنَّ الشَّرع عبَّر عن الغاية القصوى بالتَّحريم، وإنَّما يشبَّه(3) الشَّيء بما هو أوضح منه، فدلَّ ذلك على أنَّ الَّذين كانوا لا يعلمون أنَّ الثَّلاث محرَّمة ولا أنَّها الغاية يعلمونَ أنَّ التَّحريم هو الغايةُ، ولهذا بيَّن لهم أنَّ الثَّلاث تحرِّم، فالمستدلُّ به في الحقيقة إنَّما هو الإطلاق‼ مع السِّياق، وما من شأن العرب أن تعبِّر بالعامِّ عن الخاصِّ، ولو قال القائل لإنسانٍ بين يديه يُعَرِّف بشأنه، وينبِّه على قدرهِ: هذا حيوانٌ لكان متهكِّمًا مستخفًّا، فإذا عبَّر الشَّرع عن الثَّلاث بأنَّها محرَّمة، فلا يحمل على التَّعبير عن الخاصِّ بالعام لئلَّا يكون ركيكًا، والشَّرع منزَّهٌ عن ذلك، فإذن هما سواءٌ لا عمومَ بينهما، ويدلُّ هذا على أنَّ التَّحريم كان أشهرَ عندهم بالغلظِ والشِّدَّة مِن الثَّلاث، ولهذا فسَّره لهم به. قال: وهذا من لطيفِ الكلام، وأمَّا كون التَّحريم قد يقصرُ عن الثَّلاث فذلك تحريمٌ مقيَّدٌ، وأمَّا المطلق منه فللثلاث، وفرق بين ما يُفهم لدى الإطلاق وبين ما لا يُفهم إلَّا بقيدٍ. انتهى.
          وتعقَّبه البدرُ فقال: قوله: وما من شأن العرب أن تعبِّر بالعامِّ عن الخاصِّ(4) مشكلٌ، اللَّهمَّ إلَّا أن يريدَ في بعض المقاماتِ الخاصَّة فيمكن، وسياقُ كلامهِ يُفْهم ذلك عند التَّأمُّل. انتهى.
          وقول(5) ابن بطَّال: إنَّ البخاريَّ يرى أنَّ التَّحريم يُنَزَّلُ منزلة الطَّلاق الثَّلاث للإجماع على أنَّ من طلَّق امرأته ثلاثًا أنَّها(6) تحرم عليه، فلمَّا كانت الثَّلاث تحرِّمها كان التَّحريم ثلاثًا، ومن ثمَّ أورد حديث رفاعة محتجًّا به، لذلك تعقَّبه في «الفتح» فقال: الَّذي يظهرُ من مذهب البخاريِّ أنَّ الحرام ينصرفُ إلى نيَّة القائل، ولذا(7) صدَّر الباب بقول الحسنِ، وهذه عادتُه في موضعِ الاختلاف مهما صدَّر به من النَّقل عن صحابيٍّ أو(8) تابعيٍّ فهو اختيارهُ، وحاشا البخاريَّ أن يستدلَّ بكون الثَّلاث تحرِّم أنَّ كلَّ تحريمٍ له حكم الثَّلاث مع ظهورِ منع الحصر لأنَّ الطَّلقة الواحدة تحرِّم غير(9) المدخولِ بها مطلقًا، والبائنُ تحرِّم المدخول(10) بها إلَّا بعقدٍ جديدٍ، وكذا الرَّجعيَّة إذا انقضت عدَّتها فلم ينحصرِ التَّحريم في الثَّلاث، وأيضًا فالتَّحريم أعمُّ من التَّطليق ثلاثًا، فكيف يستدلُّ بالأعمِّ على الأخصِّ؟
          (وَلَيْسَ هَذَا) التَّحريم المذكور في المرأة (كَالَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ) على نفسه (لأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِطَعَامِ الحِلِّ) ولأبي ذرٍّ: ”للطَّعام الحلِّ“: (حَرَامٌ) قال الشَّافعيُّ: وإن حرَّم طعامًا وشرابًا فلغوٌ (وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ: حَرَامٌ) خلافًا لما(11) نُقل عن أصبغ وغيره ممَّن سوَّى بين الزَّوجة والطَّعام والشَّراب، وقد ظهرَ أنَّ الشَّيئين وإن(12) استويا من جهةٍ فقد يفترقان من جهةٍ أخرى، فالزَّوجة إذا حرَّمها على نفسهِ وأراد بذلك تطليقَها حرمتْ عليه، والطَّعام و(13)الشَّراب إذا حرَّمه على نفسه لم يحرَّم عليه ولا يلزمه كفَّارة لاختصاصِ الإبضاعِ بالاحتياط وشدَّة قبولها التَّحريم، ولذا احتجَّ باتِّفاقهم على أنَّ‼ المرأةَ بالطَّلقة الثَّالثة تحرمُ على الزَّوج، فقال:
          (وَقَالَ) تعالى: (فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثٌ) بالرفع في الفرع، وفي «اليونينيَّة»: ”ثلاثًا“ بالنصبِ، ويشبه / أن تكون الألف ملحقةً بعد المثلَّثة: ({لاَ تَحِلُّ لَهُ}) من بعد ({حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة:230]).


[1] في (م) و(د): «مما».
[2] في (م): «طلق».
[3] في (ب) و(س): «وأما تسمية».
[4] في (ب): «بالخاص عن العام»، وفي (د): «عن العام بالخاص».
[5] في (م) و(د): «قال».
[6] «أنها»: زيادة من (م)، وفي (ص): «فإنها».
[7] في (ص): «لذلك».
[8] في (ب): «عن».
[9] في (ص): «عين».
[10] في (د): «بالدُّخول».
[11] في (د): «لمن».
[12] في (م) و(د): «إذا».
[13] في (ب): «أو».