إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب من أجاز طلاق الثلاث

          ░4▒ (بابُ مَنْ أَجَازَ) ولأبي ذرٍّ: ”مَن جوَّز“ (طَلَاقَ الثَّلَاثِ) وفي نسخةٍ: ”الطَّلاق الثَّلاث“ أي: دفعةً واحدةً أو مفرَّقًا (لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ}) أي: تطليقة بعد تطليقةٍ على التَّفريق دون الجمعِ(1) ({فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}) برجعةٍ ({أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة:229]) وهذا عامٌّ يتناول إيقاع الثَّلاث دفعةً واحدةً، وقد دلَّت الآية على ذلك من غير نكيرٍ، خلافًا لمن لم يجزْ ذلك لحديثِ: «أبغَضُ الحلَالِ إلى اللهِ الطَّلاق». وعند سعيد بنِ منصورٍ بسندٍ صحيح: أنَّ عمرَ كان إذا أَتي برجلٍ طلَّق امرأتَه ثلاثًا أوجعَ ظهره. وقال الشِّيعة وبعضُ أهل الظَّاهر: لا يقعُ إذا أوقعَه دفعةً واحدةً. قالوا: لأنَّه خالفَ السُّنَّة فيُردُّ إلى السُّنَّة. وفي «الإشراف» عن بعض المبتدعةِ: أنَّه إنَّما يلزم بالثَّلاث إذا كانت مجموعةً واحدةً، وهو قول محمَّد بن إسحاق صاحبُ «المغازي» وحجَّاج بن أرطاةَ، وتمسَّكوا في ذلك بحديث ابن إسحاق، عن داودَ بن الحصينِ، عن عِكرمة، عن ابن عبَّاسٍ _المرويِّ عند أحمدَ وأبي يَعلى، وصحَّحه بعضهم_ قال: طلَّق رُكَانةُ بن عبدِ يزيد امرأتَه ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ، فحزنَ عليها حزنًا شديدًا، فسأله النَّبيُّ صلعم : «كيفَ طلَّقْتَها؟» قال: ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ. فقال النَّبيُّ صلعم / : «إنَّما تلكَ واحدَةٌ فارتَجِعْها إِن شئتَ فارتجعَهَا».
          وأُجيب بأنَّ ابن إسحاقَ وشيخه مختلفٌ فيهما مع معارضتهِ بفتوى ابن عبَّاس بوقوع الثَّلاث، كما سيأتي _إن شاء الله تعالى_ وبأنَّه مذهبٌ شاذٌّ فلا يعمل به إذ هو منكرٌ، والأصحُّ ما رواه أبو داود والتِّرمذيُّ وابن ماجه: أنَّ رُكانة طلَّق زوجته البتَّة، فحلَّفه رسول الله صلعم أنَّه ما أراد إلَّا واحدةً‼ فردَّها إليه، فطلَّقها الثَّانية في زمن عمر، والثَّالثة في زمن عثمانَ. قال أبو داود: وهذا أصحُّ. وعُورض بأنَّه نقل عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وعبد الرَّحمن بن عوفٍ، والزُّبير، كما نقله ابن مُغيث في «كتاب الوثائق» له، ونقلَه ابنُ المنذر عن أصحاب ابنِ عبَّاسٍ كعطاء وطاوسَ وعَمرو بن دينارٍ. بل في مسلم من طريقِ عبد الرَّزَّاق، عن مَعمرٍ، عن عبدِ الله بن طاوس عن أبيه(2)، عن ابن عبَّاس، قال: «كان الطَّلاق على عهدِ رسولِ الله صلعم وأبي بكرٍ وسنتين من خلافةِ عمرَ طلاق الثَّلاث واحدةً. فقال عمرُ: إنَّ النَّاس قد استعجلوا في أمرٍ كان لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناهُ عليهم فأمضاهُ عليهم»، وقال الشَّيخ خليلٌ من أئمَّة المالكيَّة في «توضيحه»: وحكى التَّلمسانيُّ عندنا قولًا بأنَّه إذا أوقعَ الثَّلاث في كلمةٍ(3) إنَّما يلزمه واحدةً، وذكر أنَّه في «النوادر» قال: ولم أرهُ. انتهى.
          والجمهور على وقوع الثَّلاث، فعند أبي داود بسندٍ صحيحٍ من طريقِ مجاهدٍ(4)، قال: «كنتُ عند ابن عبَّاسٍ فجاءه رجلٌ، فقال: إنَّه طلَّق امرأتَه ثلاثًا، فسكت حتَّى ظننتُ(5) أنَّه رادها إليه، ثمَّ قال: ينطلقُ أحدُكم فيركبُ الأحموقةَ، ثمَّ يقول: يا ابن عبَّاسٍ، يا ابن عبَّاسٍ، يا ابن عبَّاسٍ(6) إنَّ الله قال: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}[الطلاق:2] وأنت لم تتقِ الله فلم أجدْ لك مخرجًا، عصيتَ ربَّك، وبانتْ منك امرأتكَ». وقد رُوي عن ابنِ عبَّاس من غير طريقٍ: أنَّه أفتى بلزوم الثَّلاث لمن أوقعَها مجتمعةً. وفي «الموطأ» بلاغًا: قال رجلٌ(7) لابن عبَّاس: «إنِّي طلَّقت امرأتِي مئةَ طلقةٍ فماذا ترى؟ فقال ابنُ عبَّاس: طلقت منك ثلاثًا، وسبعٌ وتسعون اتَّخذت بها آياتِ الله هُزوًا». وقد أُجيب عن قوله: «كان طلاقُ الثَّلاث واحدةً» بأنَّ النَّاس كانوا في زمنهِ صلعم يطلِّقون واحدةً، فلمَّا كانوا في زمان عُمر كانوا يطلِّقون ثلاثًا. ومحصله: أنَّ المعنى: أنَّ الطَّلاق الموقعَ في زمن عُمر ثلاثًا كان يوقع قبل ذلك واحدةً لأنَّهم كانوا لا يستعجلون(8) الثَّلاث أصلًا، وكانوا يستعملونها(9) نادرًا، وأمَّا في زمن عمر فكثُر استعمالهم لها. وأمَّا قوله: فأمضاهُ عليهم، فمعناه: أنَّه صنعَ فيه من الحكمِ بإيقاعِ الطَّلاق ما كانَ يصنعُ قبله. انتهى.
          وقال الشَّيخُ كمال الدِّين بن الهمَّام: تأويلُه: أنَّ قول الرَّجل: أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، أنت طالقٌ، كان واحدةً في الزَّمن الأوَّل لقصدهم التَّأكيد في ذلك الزَّمان، ثمَّ صاروا يقصدون التَّجديد، فألزمَهم عمر بذلك؛ لعِلمه بقصدِهم‼، قال: وما قيل في تأويلهِ: إنَّ الثَّلاث الَّتي يوقعونها الآن إنَّما كانت في الزَّمن الأوَّل واحدةً، تنبيه على تغيُّر الزَّمان ومخالفة السُّنَّة فيُشْكِل؛ إذ لا يتَّجه حينئذٍ قوله: فأمضاهُ عمرُ. واختلفوا مع الاتِّفاق على الوقوعِ ثلاثًا هل يُكره، أو يحرمُ، أو يباحُ، أو يكون بدعيًّا، أو لا؟ فقال الشَّافعيَّة: يجوزُ جمعها ولو دفعةً، وقال اللَّخميُّ من أئمةِ المالكيَّة: إيقاع الاثنتين مكروهٌ، والثَّلاث ممنوعٌ لقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}[الطلاق:1] أي: من(10) الرَّغبة في المراجعةِ والنَّدم على الفُرْقة(11). ولنا(12): قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء}[البقرة:236] و{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}[الطلاق:1] وهذا يقتضِي الإباحة، وطلَّق رسول الله صلعم حفصةَ، وكان الصَّحابة يطلِّقون(13) من غير نكيرٍ حتَّى رُوي: أنَّ مغيرةَ بن شعبةَ كان له أربعُ نسوةٍ فأقامهنَّ بين يديه صفًّا، فقال: أنتنَّ حسناتُ الأخلاقِ، ناعماتُ الأرواقِ(14)، طويلاتُ الأعناقِ، اذهبنَ فأنتنَّ الطَّلاق. وهذا كلُّه(15) يدلُّ على الإباحة. نعم الأفضلُ عندنا أن لا يطلِّق أكثر من واحدةٍ ليخرجَ من الخلافِ. وقال الحنفيَّة(16): يكون بدعيًّا إذا أوقعَه بكلمةٍ لحديثِ ابن عُمر _عند الدَّارقطنيِّ_: قلتُ يا رسول الله: أرأيتَ لو طلَّقتها ثلاثًا؟ قال: «إذًا قَد عصيتَ ربَّكَ، وبانَتْ منكَ امرأتُكَ» ولأنَّ الطَّلاق إنَّما جُعل متعددًا ليمكنه التَّدارك عند النَّدم، فلا يحلُّ له تفويتُه.
          وفي حديث محمود / بن لبيدٍ _عند النَّسائيِّ بسندٍ رجالُه ثقاتٌ_ قال: أُخْبِر النَّبيُّ صلعم عن رجلٍ طلَّق امرأته ثلاثَ تطليقاتٍ جميعًا، فقامَ مُغْضبًا فقال: «أَيُلْعَبُ بكتَابِ اللهِ، وأنَا بينَ أظهُرِكُم» لكنَّ محمود بن لبيدٍ ولد في زمنه صلعم ولم يثبُت له منه سماعٌ، وهو مع ذلك محتملٌ لإنكارهِ عليه إيقاعها مجموعة وغير ذلك.
          (وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) عبدُ الله، فيما وصله الشَّافعيُّ وعبد الرَّزَّاق (فِي) رجلٍ (مَرِيضٍ طَلَّقَ) امرأتَه: (لَا أَرَى) بفتح الهمزة (أَنْ تَرِثَ مَبْتُوْتَةٌ) بالمثنَّاتين الفوقيَّتين بينهما واو ساكنة، وقبل أُوْلاهما موحدة، منصوبة في «اليونينيَّة»، مَن قيل لها: أنت طالقٌ البتَّة، ويُطلق(17) على من انبتتْ بالثَّلاث، ولغير أبي(18) ذرٍّ: ”مبتوتَتُه“ أي: مبتوتةَ المريضِ.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) عامرُ بن شَراحيل: (تَرِثُهُ) ما كانت في العدَّة، وهذا وصلَه سعيدُ بن منصورٍ.
          (وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ) بضم الشين المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة، عبدُ الله قاضِي الكوفة، التَّابعيُّ للشَّعبيِّ: (تَزَوَّجُ) استفهامٌ حذفتْ منه الأداةُ، أي: هل تزوَّج؟ (إِذَا انْقَضَتِ العِدَّةُ؟ قَالَ) الشَّعبيُّ: (نَعَمْ) تزوَّج (قَالَ) ابن شُبرمة‼: (أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني (إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ الآخَرُ) ترثه أيضًا، فيلزم إرثها من الزَّوجين معًا واحدة (فَرَجَعَ) الشَّعبيُّ (عَنْ ذَلِكَ) القول الَّذي قاله من أنَّها ترثهُ ما كانت في العدَّة، وهذا وصلَه سعيدُ بن منصورٍ، وساقه المؤلِّف مختصرًا استطرادًا.


[1] قال السندي في «حاشيته»: قوله: (بابُ مَنْ أَجازَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ...} إلى آخره)، كأنَّه استدلَّ به بناءً على أنَّ المراد الطَّلاق المعقِّب للرجعة ثنتان، فيعم ما إذا وقعتا دفعة أو متفرِّقتين، فيدلُّ على اعتبار ما وقعَ دفعة، وإلَّا فلو حمل مرَّتان على معنى تطليقةٍ بعد تطليقةٍ على التَّفرق دون الجمع، كما ذكره القسطلاني لم يستقم الاستدلال لعدمِ شموله للدَّفع والتعجب أنَّه قال بعد ذلك: إنَّه عامٌّ يتناولُ إيقاعَ الثلاث دفعة واحدة مع أنَّه لا يشملُ الثلاث أصلًا، نعم يشملُ الاثنين، ويقاسُ عليه الثلاث لكن لا يشملُ على المعنى الَّذي ذكره إلَّا المتفرق دون ما يكون دفعة، والله تعالى أعلم.
[2] قوله: «عن أبيه» زيادة من «مسلم» ليست في كل النسخ.
[3] في (ص) زيادة: «إنه».
[4] في الأصول: «بن مجاهد» والتصحيح من مصادر التخريج.
[5] في (م) و(د): «ظننا».
[6] «يا ابن عباس»: ليست في (س).
[7] «رجل»: ليست في (د).
[8] في (م) و(د): «يستعملون».
[9] في (ص): «يستعجلونها».
[10] في (م): «في».
[11] في (م) و(د): «في الفراق».
[12] في (د): «وكذا».
[13] في (د): «ويطلقوهن».
[14] في (م) و(د): «الأوراق».
[15] في (س): «وكل هذا».
[16] في (م): «أبو حنيفة».
[17] في (ب) و(د): «تطلق».
[18] في (ص): «لأبي».