إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم

          3256- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) القرشيُّ الأويسيُّ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) الإمام(1)، وسقط لأبي ذرٍّ «ابن أنسٍ» (عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) بضمِّ السِّين وفتح اللَّام المدنيِّ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) بالتَّحتيَّة والمهملة المُخفَّفة (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَيُونَ) بفتح التَّحتيَّة والفوقيَّة فهمزةٍ مفتوحةٍ فتحتيَّةٍ مضمومةٍ، بوزن «يتفاعلون» (أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَيُونَ) بفتح التَّحتيَّة والفوقيَّة والهمزة بعدها تحتيَّةٌ مضمومةٌ، ولأبي ذرٍّ: ”تتراءَون“بفوقيَّتين من غير تحتيَّةٍ بعد الهمزة (الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ) بضمِّ الدَّال والتَّحتيَّة بغير همزٍ، الشَّديد الإضاءة (الغَابِرَ) / بالموحَّدة بعد الألف، أي: الباقي في الأفق بعد انتشار ضوء الفجر، وإنَّما يستنير في ذلك الوقت الكوكب الشَّديد الإضاءة، وفي «الموطَّأ»: الغائر _بالتَّحتيَّة بدل الموحَّدة_ يريد: انحطاطه من الجانب الغربيِّ. قال التُّورِبشتيُّ: وهي(2) تصحيفٌ، وفي «التِّرمذيِّ»: الغارب، بتقديم الرَّاء على الموحَّدة (فِي الأُفُقِ) أي: طرف السَّماء (مِنَ المَشْرِقِ أَو المَغْرِبِ) قال في «شرح المشكاة»: فإن قلت: ما فائدة تقييد الكوكب بالدُّرِّيِّ ثمَّ بالغابر في الأفق؟ وأجاب: بأنَّه للإيذان بأنَّه من باب التَّمثيل الَّذي وجهُه مُنتزَعٌ من عدَّة أمورٍ مُتوهَّمةٍ في المشبَّه، شبَّه رؤية الرَّائي في الجنَّة صاحبَ الغرفة برؤية الرَّائي الكوكب المستضيء الباقي في جانب المشرق أو المغرب(3) في الاستضاءة مع البُعد، فلو اقتُصِر على الغائر(4) لم يصحَّ، لأنَّ الإشراق يفوت عند الغور(5)، اللَّهمَّ إلَّا أن(6) يُقدَّر: المستشرف على الغور، كقوله تعالى: {فَإِذَا (7)بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}[البقرة:234] أي: شارفن بلوغ أجلهنَّ، لكن لا يصحُّ هذا المعنى في الجانب الشَّرقيِّ. نعم على التَّقدير؛ كقولهم:
. . . . . . . . . . . . . .                      متقلِّدًا سيفًا ورُمحًا
          و:
علفته(8) تبنًا وماءً باردًا                     . . . . . . . . . . . . . . . . .
          أي: طالعًا في الأفق من المشرق وغابرًا(9) في المغرب (لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تِلْكَ) الغرف المذكورة (مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ) ╫ (لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ) صلعم : (بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أي: نعم هي منازل الأنبياء بإيجاب الله تعالى لهم، ولكن قد يتفضَّل الله تعالى على غيرهم بالوصول إلى تلك المنازل، ولأبي ذرٍّ فيما حكاه السَّفاقسيُّ: ”بل“ الَّتي للإضراب، قال القرطبيُّ(10): والسِّياق يقتضي أن يكون الجواب بالإضراب. وإيجاب الثَّاني: أي: بل هم (رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ) حقَّ إيمانه (وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ) حقَّ تصديقهم، وكلُّ أهل الجنَّة مؤمنون مصدِّقون، لكن امتاز هؤلاء بالصِّفة المذكورة. وفي حديث أبي سعيدٍ عند التِّرمذيِّ: «وإنَّ أبا بكرٍ وعمر منهم(11) وأَنْعَما» وعنده أيضًا عن عليٍّ مرفوعًا: «إنَّ في الجنَّة غرفًا يُرَى ظهورها من بطونها، وبطونها‼ من ظهورها» فقال أعرابيٌّ: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «هي لمن أَلَانَ الكلامَ، وأدام الصِّيام، وصلَّى باللَّيل والنَّاس نيام». وقال الكِرمانيُّ: بلى، أي: يبلغها المؤمنون(12) المصدِّقون، فإن قلت: فحينئذٍ لا يبقى في غير الغرف أحدٌ، لأنَّ أهل الجنَّة كلَّهم مؤمنون مصدِّقون، المصدِّقون بجميع الرُّسل ليس إلَّا أمَّة محمَّدٍ صلعم ، فيبقى مؤمنو سائر الأمم فيها. انتهى. فالغرف(13) لهذه الأمَّة؛ إذ تصديق جميع الرُّسل إنَّما يتحقَّق لها بخلاف غيرهم من الأمم، وإن كان فيهم(14) من صدَّق بمن سيجيء من بعده من الرُّسل فهو بطريق التَّوقُّع، قاله في «الفتح».
          وهذا الحديث أخرجه مسلمٌ في «صفة الجنَّة».


[1] «الإمام»: ليس في (م).
[2] في (ب) و(س): «وهو».
[3] في (ص): «الشَّرق أو الغرب».
[4] في (د): «الغابر».
[5] في (د) و(م): «الغروب» وكذا في الموضع اللَّاحق.
[6] زيد (د) وفي (م): «يُقال».
[7] في غير (ب) و(س): «حتَّى إذا» والمثبت موافقٌ لما في التَّنزيل.
[8] في (ب) و(س): «علفتها».
[9] في (ل): «غائرًا».
[10] «قال القرطبيُّ»: ليس في (م).
[11] في (د) و(ص) و(ل): «منهما».
[12] قوله: «بلى، أي: يبلغها المؤمنون المصدِّقون، فإن قلت: فحينئذٍ لا يبقى في غير الغرف أحدٌ، لأنَّ أهل الجنَّة كلَّهم مؤمنون » زيادة من (د)، وهي بهامش (ل).
[13] في (د): «فالغرفة».
[14] في (م): «منهم».