إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر

          3245- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ) المروزيُّ المجاور بمكَّة(1) قال: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ) بن المبارك المروزيُّ قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) هو ابن راشدٍ البصريُّ الأزديُّ (عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) بكسر الموحَّدة(2) المشدَّدة، الصَّنعانيِّ أخي وهبٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ) أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : أَوَّلُ زُمْرَةٍ) أي: جماعةٍ (تَلِجُ الجَنَّةَ) تدخلها (صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ) في الإضاءة والحسن (لَا يَبْصُقُونَ) بالصَّاد (فِيهَا) أي(3): في الجنَّة (وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ) زاد جابرٌ في حديثه المرويِّ في «مسلمٍ»: «طعامهم ذلك جُشَاءٌ كريح المسك» وزاد المؤلِّف في «صفة آدم» [خ¦3327]: «ولا يبولون» وفي الرِّواية الثَّانية [خ¦3246]: «لا يسقمون» ففيه سلب صفات النَّقص عنهم (آنِيَتُهُمْ فِيهَا) أي: في الجنَّة (الذَّهَبُ) زاد في الثَّانية [خ¦3246]: «والفضَّة» (أَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ) يمتشطون بها، لا لاتِّساخ شعورهم، بل للتَّلذُّذ (وَمَجَامِرُهُمُ) بفتح الميم الأولى (الأَُلُوَّةُ) بفتح الهمزة وتُضَمُّ، وبضمِّ اللَّام وتشديد الواو، وحُكِي: كسر الهمزة وتخفيف الواو، وفي «اليونينيَّة»: وتُسكَّن اللَّام. قال الأصمعيُّ: أراها فارسيَّةً عُرِّبت: العود الهنديُّ الَّذي يتبخَّر به، أو المراد / : عود مجامرهم الألوَّة، ويؤيِّده الرِّواية الآتية قريبًا _إن شاء الله تعالى_ [خ¦3246]: «وَقودُ مَجامرهم الألوَّة» لأنَّ المراد(4) الجمر الَّذي يُطرَح عليه، واستُشكِل: بأنَّ العود إنَّما يفوح ريحه بوضعه في النَّار، والجنَّة لا نار فيها. وأُجيب باحتمال أن يكون في الجنَّة نارٌ لا تسلُّط(5) لها على الإحراق إلَّا(6) إحراق ما يُتبخَّر به خاصَّةً، ولم يخلق الله فيها قوَّةً يتأذَّى بها من يمسُّها(7) أصلًا، أو يُستعمَل العود بغير نارٍ، وإنَّما سُمِّيت مِجْمَرةً باعتبار ما كان في الأصل، أو يفوح بغير استعمالٍ (وَرَشْحُهُمُ المِسْكُ) أي: عرقهم كالمسك في طيب ريحه (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ) من نساء الدُّنيا، والتَّثنية بالنَّظر إلى أنَّ أقلَّ ما لكلِّ واحدٍ منهم زوجتان، وقيل: بالنَّظر إلى قوله تعالى: {جَنَّتَانِ}[الرحمن:46] و{عَيْنَانِ}[الرحمن:50]، فليُتأمَّل. ويأتي قريبًا _إن شاء الله تعالى_ من طريق عبد الرَّحمن بن أبي(8) عمرة عن أبي هريرة: «لكلِّ امرئٍ زوجتان من الحور العين» [خ¦3254] وعند الفريابيِّ(9) عن أبي أُمامة عن رسول الله صلعم قال: «ما من عبدٍ يدخل الجنَّة إلَّا ويُزوَّج ثنتين وسبعين زوجةً، ثنتين(10) من الحور العِين(11) وسبعين من أهل ميراثه من أهل الدُّنيا، ليس منهنَّ امرأةٌ إلَّا لها قُبُلٌ شهيٌّ وله ذَكَرٌ لا ينثني» وفيه: خالد بن يزيد بن‼ عبد الرَّحمن(12) الدِّمشقيُّ، وهَّاه ابن معينٍ وقال: ليس بشيءٍ. وقال النَّسائيُّ: ليس ثقةٌ. وقال الدَّارقطنيُّ: ضعيفٌ. وذكر له ابن عديٍّ هذا الحديث ممَّا(13) أُنكِر عليه. وعند أبي نُعَيمٍ عن أنسٍ، قال رسول الله صلعم : «للمؤمن في الجنَّة ثلاثٌ وسبعون زوجةً، فقلنا: يا رسول الله، أَوَله قوَّة ذلك؟ قال: إنَّه ليُعطَى قوَّة مئةٍ» وفيه: أحمد بن حفصٍ السَّعديُّ له مناكير، والحجَّاج بن أرطاة. قال ابن القيِّم: والأحاديث الصَّحيحة إنَّما فيها أنَّ لكلٍّ منهم زوجتين، وليس في الصَّحيح زيادةٌ على ذلك، فإن كانت هذه الأحاديث محفوظةً فإمَّا أن يُراد بها ما لكلِّ واحدٍ من السَّراري زيادةً على الزَّوجتين، وإمَّا أن يُراد أنَّه يُعطَى قوَّة من يجامع هذا العدد، ويكون هذا هو المحفوظ فرواه بعض هؤلاء بالمعنى فقال: له كذا وكذا زوجةً، ويحتمل أن يكون تفاوتهم في عدد النِّساء بحسب تفاوتهم في الدَّرجات. قال: ولا ريب أنَّ للمؤمن في الجنَّة أكثر من اثنتين(14) لِمَا في «الصَّحيحين» من حديث أبي عمران الجونيِّ عن أبي بكر بن عبد الله بن قيسٍ عن أبيه قال: قال رسول الله صلعم : «إنَّ للمؤمن في الجنَّة لخيمةً من لؤلؤةٍ مُجوَّفةٍ، طولها ستُّون ميلًا، للعبد المؤمن فيها أهلون يطوف عليهم، لا يرى بعضهم بعضًا(15)» وقوله: «زوجتان» بتاء التَّأنيث قد تكرَّرت في الحديث، والأشهر تركها وأنكرها الأصمعيُّ، فذكر له قول الفرزدق:
وإنَّ الَّذي يسعى ليفسدَ زوجتي                     لَساعٍ إلى أُسْد الشَّـرَى(16) يَسْتَنيلُها
          فسكت ولم يَحِرْ(17) جوابًا.
          (يُرَى) بضمِّ أوَّله مبنيًّا للمفعول (مُخُّ سُوقِهِمَا) بضمِّ الميم وتشديد الخاء المعجمة والرَّفع، مفعولًا(18) ناب عن فاعله، ما في داخل العظم (مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ) والجلد (مِنَ الحُسْنِ) والصَّفاء(19) البالغ، ورقَّة البشرة ونعومة الأعضاء، وفي حديث أبي سعيدٍ المرويِّ عند أحمد: «ينظر وجهه في خدِّها أصفى من المرآة» وفي حديث ابن مسعودٍ عند ابن حبَّان في «صحيحه» مرفوعًا: «إنَّ المرأة من نساء أهل الجنَّة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حُلَّةً، حتَّى يُرَى مخُّها» وذلك أنَّ(20) الله تعالى يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:58] فأمَّا الياقوت، فإنَّه حجرٌ لو أدخلت فيه سلكًا، ثمَّ استصفيته لَرَأَيته(21) من ورائه، ولأبي ذرٍّ: ”يَرى“ مبنيًّا للفاعل ”مخَّ سوقهما“ بنصب «مخٍّ» على المفعوليَّة (لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ) بين أهل الجنَّة (وَلَا تَبَاغُضَ) لصفاء قلوبهم ونظافتها من الكدورات (قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ) أي: كقلبٍ واحدٍ، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ: ”قلب رجلٍ واحدٍ“ (يُسَبِّحُونَ اللهَ) متلذِّذين به لا متعبِّدين (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) نُصِب على الظَّرفيَّة، أي: مقدارهما، يعلمون ذلك قيل: بستارةٍ تحت العرش إذا نُشِرت يكون النَّهار لو كانوا في الدُّنيا، وإذا طُوِيت يكون اللَّيل لو كانوا فيها، أو المراد: الدَّيمومة، كما تقول العرب: أنا عند فلانٍ‼ صباحًا ومساءً، لا بقصد الوقتين المعلومين بل الدَّيمومة، قاله في «شرح المشكاة» وفي حديث / جابرٍ عند مسلمٍ: «يُلهَمون التَّسبيح والتَّكبير كما تُلهَمون النَّفَس» وحينئذٍ فلا كلفة عليهم في ذلك، وذلك(22) لأنَّ قلوبهم تنوَّرت بمعرفة ربِّهم تعالى وامتلأت بحبِّه.
          وهذا الحديث أخرجه التِّرمذيُّ في «صفة الجنَّة» أيضًا.


[1] في (ص): «مكَّة».
[2] «الموحَّدة»: ليس في (د).
[3] «أي»: ليس في (د) و(ص) و(م).
[4] في (د): «مرادهم».
[5] في (م): «تسليط».
[6] في (م): «لا» وهو تحريفٌ.
[7] في (د) و(م): «يمسكها».
[8] قوله: «أبي» زيادة لا بدَّ منها ليست في النسخ.
[9] في (م): « الفَـِرَبْريِّ» وهو تحريفٌ.
[10] في (د): «ثنتان»، وفي غير (س): «اثنتين» وليس في (م).
[11] «العِين»: مثبتٌ من (د).
[12] زيد في (د): «بن عمرة» ولم أقف عليه في التَّراجم.
[13] في (م): «فيما».
[14] في (د): «ثنتين».
[15] في (د): «بعضهم».
[16] في (م): «الثَّرى» وهو تحريفٌ.
[17] في (م): «يجب».
[18] في (ص) و(م): «مفعولٌ».
[19] في (م): «والضِّياء».
[20] في (ص): «بأنَّ».
[21] في (ص): «لأُرِيته».
[22] «وذلك»: ليس في (ص).