إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا

          3208- وبه قال: (حَدَّثَنَا الحَسَنُ(1) بْنُ الرَّبِيعِ) بفتح الرَّاء وكسر المُوحَّدة، ابن سليمان البُورَانيُّ _بضمِّ الموحَّدة وسكون الواو وفتح الرَّاء_ البجليُّ الكوفيُّ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ) بالحاء المهملة السَّاكنة وفتح الواو آخره صادٌ مُهمَلةٌ، سلَّامٌ _بتشديد اللَّام_ ابن سُلَيمٍ الحنفيُّ مولى بني حنيفة الكوفيُّ (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان بن مهران (عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ) أبي سليمان الهَمْدانيِّ الكوفيِّ أنَّه قال: (قَالَ عَبْدُ اللهِ:) يعني: ابن مسعودٍ ☺ (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم _وَهْو الصَّادِقُ) في قوله (المَصْدُوقُ_) فيما وعده به ربُّه تعالى. قال في «شرح المشكاة»: الأَولى أن تُجعَل الجملة اعتراضيَّةً لا حاليَّةً لتعمَّ الأحوال كلَّها، وأن يكون من عادته ودأبه ذلك، فما أحسن موقعها (قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ) بضمِّ الياء وسكون الجيم وفتح الميم مبنيًّا للمفعول (فِي بَطْنِ أُمِّهِ(2) أَرْبَعِينَ يَوْمًا) أي: يُضَمُّ بعضُه إلى بعضٍ بعد الانتشار؛ ليتخمَّر فيها حتَّى يتهيَّأ للخلق، وفي قوله: «خلقُه» تعبيرٌ بالمصدر عن الجثَّة، وحُمِل على أنَّه بمعنى المفعول، كقولهم: هذا ضَرْبُ الأمير، أي: مضروبُه. وقال الخطَّابيُّ: رُوِي عن ابن مسعودٍ في تفسيره: «أنَّ النُّطفة إذا وقعت في الرَّحم فأراد الله أن يخلق / منها بشرًا طارت في بشرة المرأة تحت كلِّ ظفرٍ وشعرٍ، ثمَّ تمكث أربعين ليلةً، ثمَّ تنزل دمًا في الرَّحم، فذلك جمعُها». وهذا رواه ابن أبي حاتمٍ في «تفسيره» وقد رجَّح الطِّيبيُّ هذا التَّفسير فقال: والصَّحابة أعلم النَّاس بتفسير ما سمعوه، وأحقُّهم بتأويله، وأولاهم بالصِّدق فيما يتحدَّثون به، وأكثرهم احتياطًا للتَّوقِّي عن خلافه، فليس لمن بعدهم أن يردَّ عليهم. قال في «الفتح»: وقد وقع في حديث مالك بن الحُوَيرث رفعه ما ظاهره يخالف ذلك، ولفظه: «إذا أراد الله خلق عبدٍ جامع الرَّجلُ المرأةَ، طار‼ ماؤه في كلِّ عِرْقٍ وعضوٍ منها، فإذا كان يوم السَّابع جمعه الله ثمَّ أحضره كلّ عرقٍ له دون آدم في أيِّ صورةٍ ما شاء ركَّبك» (ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً) دمًا غليظًا جامدًا (مِثْلَ ذَلِكَ) الزَّمان (ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً) قطعة لحمٍ قدر ما يُمضَغ (مِثْلَ ذَلِكَ) الزَّمان. واختُلِف في أوَّل ما يتشكَّل من الجنين، فقيل: قلبه لأنَّه الأساس ومعدن الحركة(3) الغريزيَّة، وقيل: الدِّماغ لأنَّه مجمع الحواسِّ ومنه تنبعث، وقيل: الكبد لأنَّ فيه النُّموَّ والاغتذاء الَّذي هو قوام البدن، ورجَّحه بعضهم بأنَّه مقتضى النِّظام الطَّبيعيِّ، لأنَّ النُّموَّ هو المطلوب أوَّلًا، ولا حاجة له حينئذٍ إلى حسٍّ ولا حركةٍ إراديَّةٍ، وإنَّما يكون له قوَّة الحسِّ والإرادة عند تعلُّق النَّفس به، بتقديم الكبد ثمَّ القلب ثمَّ الدِّماغ (ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا) إليه في الطَّور الرَّابع، حين يتكامل بنيانه وتتشكَّل أعضاؤه (فَيُؤْمَرُ) مبنيًّا للمفعول، ولأبي ذرٍّ: ”ويُؤمَر“ (بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ) يكتبها كما قال (وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ) غذاءه، حلالًا أو حرامًا، قليلًا أو كثيرًا، أو كلَّ ما ساقه الله تعالى إليه لينتفع به، كالعلم وغيره (وَأَجَلَهُ) طويلًا أو قصيرًا (وَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ) حسب ما اقتضته حكمته وسبقت كلمته، ورفعُ(4) «شقيٌّ» خبر مبتدأٍ محذوفٍ، وتاليه عطفٌ عليه، وكان حقّ الكلام أن يقول: يكتب سعادته وشقاوته، فعدل عن ذلك حكايةً لصورة ما يكتب، لأنَّه يكتب: شقيٌّ أو سعيدٌ، والظَّاهر: أنَّ الكتابة هي الكتابة المعهودة في صحيفته(5)، وقد جاء ذلك مُصرَّحًا به في روايةٍ لمسلمٍ في حديث حُذَيفة بن أَسِيدٍ(6): «ثمَّ تُطوَى الصَّحيفة، فلا يزاد فيها ولا يُنقَص»، ووقع في حديث أبي ذرٍّ عنه(7): «فيقضي الله ما هو قاضٍ، فيكتب ما هو لاقٍ بين عينيه» (ثُمَّ) بعد كتابة الملك هذه الأربعة (يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ) بعد تمام صورته، ثمَّ إنَّ حكمة تحوُّل الإنسان في بطن أمِّه حالةً بعد حالةٍ مع أنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يخلقه في أقلَّ من لمحةٍ: أنَّ في التَّحويل فوائد: منها: أنَّه لو خلقه دفعةً واحدةً لشقَّ على الأمِّ، فجعله أوَّلًا نطفةً، لتعتاد بها(8) مدَّةً، ثمَّ علقةً كذلك، وهَلُمَّ جرًّا، ومنها: إظهار قدرته تعالى، حيث قلبه من تلك الأطوار إلى كونه إنسانًا حَسَنَ الصُّورة متحلِّيًا بالعقل، ومنها: التَّنبيه والإرشاد(9) على كمال قدرته على الحشر والنَّشر، لأنَّ من قدر على خلق الإنسان من ماءٍ مَهينٍ، ثمَّ من علقةٍ، ثمَّ من مضغةٍ، قادرٌ على إعادته وحشره للحساب والجزاء، قاله المُظَهَّرِيُّ.
          (فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونَُ) نُصِب بـ «حتَّى»، و«ما» نافيةٌ غير مانعةٍ لها من العمل، أو رُفِع، وهو(10) الَّذي في الفرع(11) على أنَّ «حتَّى» ابتدائيَّةٌ. وفي «كتاب القدر» [خ¦6594] من طريق أبي الوليد الطَّيالسيِّ عن شعبة عن الأعمش: «وإنَّ الرَّجل ليعمل بعمل أهل الجنَّة حتَّى ما يكون» (بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ) أي: ما يبقى(12) بينه وبين أن يصل إلى الجنَّة إلَّا كمن بقي بينه وبين موضعٍ‼ من الأرض ذراعٌ، فهو تمثيلٌ بقرب حاله من الموت، وضابط ذلك بالغرغرة(13) الَّتي جُعِلت علامةً لعدم قبول التَّوبة (فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ) الَّذي كتبه الملَك وهو في بطن أمِّه، والفاء للتَّعقيب الدَّالِّ على(14) حصول السَّبق بغير مهلةٍ (فَيَعْمَلُ) عند ذلك، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ: ”يعمل“ (بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ) أي: فيدخلها (وَيَعْمَلُ) أي: بعمل أهل النَّار (حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ) أي: فيدخلها، وفيه: أنَّ مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء وجرى به القدر.
          وهذا الحديث أخرجه أيضًا في «التَّوحيد» [خ¦6594] و«القدر» [خ¦7454]، ومسلمٌ في «القدر»، وكذا أبو داود والتِّرمذيُّ وابن ماجه، وتأتي بقيَّة مباحثه إن شاء الله تعالى / بعون الله وقوَّته.


[1] في (د): «حسن».
[2] قوله: «في بطن أمِّه»، جاء في (د) بعد قوله سابقًا: «يُجمَع خلقه».
[3] في (ب) و(س): «الحركات».
[4] في (م): «ووقع».
[5] في (ص): «صحيفةٍ».
[6] في (ل): «أَسِيد».
[7] في (د) و(ب): «عنده».
[8] في (م): «لها» وهو تحريفٌ.
[9] في (د): «والإشارة».
[10] في (م): «وهذا».
[11] في (ص): «الرَّفع» وهو تحريفٌ.
[12] في (د): «بقي».
[13] في (م): «في الغرغرة».
[14] في (ص): «عليه».