إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب ما جاء في البينة على المدعي

          ░1▒ (بابُ مَا جَاءَ فِي البَيِّنَةِ عَلَى المُدَّعِي) بكسر العين (لقوله) زاد أبو ذرٍّ: ”تعالى“ ولأبي ذرٍّ أيضًا: ”╡“ ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ}) أي: إذا داين بعضكم بعضًا، تقول: داينته إذا عاملته نسيئةً معطيًا أو آخذًا ({إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}) معلومٍ بالأيَّام والأشهر، لا بالحصاد وقدوم الحاجِّ ({فَاكْتُبُوهُ}) قال ابن كثير: هذا إرشادٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجَّلة أن يكتبوها؛ ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشَّاهد، ويقال ممَّا ذكره السَّمرقَنْديُّ: من ادَّان دَينًا ولم يكتبْ، فإذا نسي دَيْنه ويدعو الله تعالى بأن يظهره، يقول الله تعالى: أمرتك بالكتابة فعصيت أمري، والجمهور: على أنَّ الأمر هنا للاستحباب ({وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}) أي: بالقسط من غير زيادة ولا نقصان ({وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ}) ولا يمتنعْ أحد من الكُتَّاب ({أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ}) مثل ما علَّمه الله من كَتْب الوثائق(1) ما لم يكن يعلم ({فَلْيَكْتُبْ}) تلك الكتابة المعلَّمة ({وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}) وليكن المملِل مَنْ عليه الحقُّ؛ لأنَّه المقرُّ(2) المشهود عليه ({وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ}) أي: المُمْلي(3) أو الكاتب(4) ({وَلاَ يَبْخَسْ}) ولا ينقص ({مِنْهُ شَيْئًا}) أي: من الحقِّ، أو الكاتب لا يبخس ما(5) أملَّ(6) عليه ({فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا}) ناقص‼ العقل مبذِّرًا ({أَوْ ضَعِيفًا}) صبيًّا أو ضعيفًا مختلًّا ({أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ}) أو غير مستطيع للإملال(7) بنفسه لخرس أو جهل باللُّغة ({فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}) أي: الَّذي يلي أمره، ويقوم مقامه من قيِّم إنْ(8) كان صبيًّا، أو مختلَّ عقلٍ، أو وكيلٍ، أو مترجمٍ إن كان غير مستطيع، وهو دليل جريان النِّيابة في الإقرار، ولعلَّه مخصوصٌ بما تعاطاه القَيِّم أو الوكيل ({وَاسْتَشْهِدُواْ}) على حقِّكم ({شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ}) المسلمين الأحرار البالغين، وقال ابن كثير: أمرَ بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التَّوثقة ({فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}) وهذا مخصوص بالأموال عندنا، وبما عدا الحدود والقصاص عند أبي حنيفة ({مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء}) لعلمكم بُعْدَ التُّهم ({أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}) أي: لأجل أنَّ إحداهما إن ضلَّت الشَّهادة بأن نسيتها ذكَّرتْها الأخرى، وفيه إشعار بنقصان عقلهنَّ وقلَّة ضبطهنَّ ({وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ}) لأداء الشَّهادة عند الحاكم، فإذا دُعِيَ لأدائها، فعليه الإجابة إذا تعيَّنت / ، وإِلَّا فهو فرضُ كفايةٍ، أو التَّحمُّل، وسُمُّوا شهداء تنزيلًا لما يشارف منزلة الواقع، و«ما» مَزيدة ({وَلاَ تَسْأَمُوْاْ}) ولا تملُّوا من كثرة مدايناتكم ({أَن تَكْتُبُوْهُ}) أي: الدَّين أو الكتاب ({صَغِيرًا أَو كَبِيرًا}) صغيرًا كان الحقُّ أو كبيرًا، أو مختصرًا كان الكتاب أو مشبعًا ({إِلَى أَجَلِهِ}) أي: إلى وقت حُلُولِه الَّذي أقرَّ به المديون ({ذَلِكُمْ}) الَّذي أمرناكم به من الكتابة ({أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ}) أعدل ({وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ}) وأثبت لها وأعون على إقامتها إذا وضع خطَّه، ثمَّ رآه، تذكَّر به الشَّهادة لاحتمال أنَّه لولا الكتابة لَنسيه، كما هو الواقع غالبًا ({وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ}) وأقرب في ألَّا تشكُّوا في جنس الدَّين وقدَرِه وأجلِه والشُّهود ونحو ذلك، ثمَّ استثنى من الأمر بالكتابة فقال: ({إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا}) أي: إلَّا أن تتبايعوا يدًا بيد، فلا بأس ألَّا تكتبوا لبعده عن التَّنازع والنِّسيان ({وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ}) هذا التَّبايع أو مطلقًا، لأنَّه أحوط ({وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ و}) فيكتب هذا خلافَ ما علم، ويشهد هذا بخلاف ما سمع، أو الضِّرار بهما، مثل: أن يعجلا عن أمر مهمٍّ و(9)يكلَّفا(10) الخروج عمَّا حُدَّ لهما، ولا يُعطى الكاتب جُعْله، والشَّاهد مؤونة مجيئه حيث كانت ({وَإِن تَفْعَلُواْ}) الضِّرار بالكاتب والشَّاهد ({فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}) خروج عن الطَّاعة لاحقٌّ بكم ({وَاتَّقُواْ اللّهَ}) في مخالفة أمره ونهيه ({وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ}) أحكامه المتضمِّنة لمصالحكم ({وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:282]) عالم بحقائق الأمور ومصالحها، لا يخفى عليه شيء، بل علْمُه محيط بجميع الكائنات، ولفظ رواية أبي ذرٍّ بعد قوله: ”{فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}“ وكذا لابن شَبُّويه، وساق في رواية الأَصيليِّ وكريمة‼ الآية كلَّها، قاله الحافظ ابن حَجَرٍ.
          (قَوْلُهُ تَعَالَى) في سورة النِّساء، ولأبوي ذرٍّ والوقت: ”وقول الله ╡“ : ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}) مواظبين على العدل، مجتهدين في إقامته ({شُهَدَاء لِلّهِ}) بالحقِّ تقيمون شهاداتِكم لوجه الله تعالى ({وَلَوْ}) كانت الشَّهادة ({عَلَى أَنفُسِكُمْ}) بأن تُقِرُّوا عليها؛ لأنَّ الشَّهادة بيان الحقِّ، سواءً كان الحقُّ عليه أو على غيره ({أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}) ولو(11) على أقاربكم ({إِن يَكُنْ}) أي: المشهود عليه، أو كلُّ واحدٍ منه ومن المشهود له ({غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا}) فلا تمتنعوا عن إقامة الشَّهادة، فلا تراعوا الغنيَّ لغناه، ولا الفقير لفقره ({فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا}) بالغنيِّ والفقير وبالنَّظر لهما، فلو لم تكن الشَّهادة لهما أو عليهما صلاحًا لَمَا شرَعها ({فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ}) لِأنْ تعدلوا عن الحقِّ ({وَإِن تَلْوُواْ}) ألسنتكم عن شهادة الحقِّ أو(12) حكومة العدل ({أَوْ تُعْرِضُواْ}) عن أدائها ({فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء:135]) تهديدٌ للشَّاهد لكيلا يقصِّر في أداء الشَّهادة ولا يكتمها، ولأبي ذرٍّ وابن شبويه بعد قوله: ”{بِالْقِسْطِ} إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}“ .
          ووجه الاستدلال بما ذكره على التَّرجمة كما قاله ابن المُنَيِّر: أنَّ المدَّعي لو كان مصدَّقًا بلا بيِّنة لم يحتج إلى الإشهاد، ولا إلى كتابة الحقوق وإملائها، فالإرشاد إلى ذلك يدلُّ على الحاجة إليه، وفي ضمن ذلك أنَّ البيِّنة على المدَّعي، ولأنَّ الله تعالى حين أمر الَّذي عليه الحقُّ بالإملاء، اقتضى تصديقه فيما أقرَّ به، وإذا كان مصدَّقًا، فالبيِّنة على من ادَّعى تكذيبه، ولم يَسُقِ المؤلِّف ☼ حديثًا اكتفاءً بالآيتين.


[1] في (د): «الودائع».
[2] في (ص): «المعترف».
[3] في (ب): «المُمْلل».
[4] في (د): «والكاتب».
[5] في غير (م): «ممَّا».
[6] في (ص): «أملى».
[7] في غير (د): «للإملاء».
[8] في (ص) و(م): «لمَنْ».
[9] في (د): «أو».
[10] في (ص): «يتكلَّفا».
[11] زيد في (د): «وكان».
[12] زيد في (ب) و(س): «عن»، وفي (د): «و».