التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: يفكر الرجل الشيء في الصلاة

          ░18▒ بابُ يُفْكِرُ الرَّجُلُ في الشَّيء في الصَّلاة.
          وَقَالَ عُمَرُ: (إِنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلاة).
          1221- 1222- 1223- ثمَّ ذكر فيه عن عُقْبةَ بن الحارثِ قال: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلعم العَصْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ...) الحديث.
          وعن الأعرجِ عن أبي هُرَيرةَ، قالَ رسولُ اللهِ صلعم: (إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلاة أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ...) الحديث.
          قال أبو سَلَمةَ بن عبدِ الرَّحمن: (إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ). وسمعه أبو سلَمة مِن أبي هُرَيرةَ.
          وعن سعيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قال: قال أبو هُرَيرةَ: (يَقُولُ النَّاسُ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيرةَ...) الحديث.
          الشرح: أمَّا أثر عُمَرَ فرواه ابن أبي شَيْبَةَ، عن حفصٍ عن عاصمٍ عن أبي عثمانَ النَّهْديِّ عنه: إني لأجهِّزُ جيشي وأنا في الصَّلاة. وحديث عُقبة تقدَّم في باب: مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ، فَذَكَرَ حَاجَةً [خ¦851]. وحديث أبي هُرَيرةَ الأوَّل تقدَّم في الأذان، ووجه إدخاله هنا: (اُذْكُرْ كذا...) إلى آخره. وقولُ أبي سَلَمةَ يأتي قريبًا في السَّهو، وحديثه الثاني مِن أفراده.
          وأثر عمر إنَّما كان فيما يقِلُّ فيه التفكُّر، يذكر في نفسه: أُخرجُ فلانًا ومعه كذا مِن العدد. فيأتي على ما يريده في أقلِّ شيءٍ مِن الْفِكْرَةِ، وأمَّا إن تابع التفكُّرَ وأكثرَ حتى لا يَدري كم صلَّى، فهذا لاهٍ في صلاته. قال ابن التِّين: وتجب عليه الإعادة.
          وقول أبي هُرَيرةَ: (يَقُولُ النَّاسُ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيرةَ) ثمَّ ذكر ما قال للرجل، وما قيل له فإنَّما يغبط الناس بحفظه، وبيَّنَها لئلَّا ينساها، وقد كان ابن شهابٍ يحدِّث خادمَه بالحديث لئلَّا ينسى، وليس مِن أهله، وكان إذا خرج إلى البادية صنع طعامًا لهم وحدَّثَهم لئلَّا ينسى.
          وفيه: أنَّه أكثرَ مِن العلم، وكان حافظًا له ضابطًا. والإكثارُ ليس عيبًا، وإنما يكون عيبًا فيه إذا خشي قِلَّة الضبط، فقد يكون مِن الناس غيرُ مكثرٍ مِن العلم ولا ضابطٍ له مثل هذا الرجل لم يحفظ ما قرأ به صلعم في العَتَمة.
          وفيه: أنَّه قد يجوز أن ينفيَ نقل الشيء عمَّن لم يُحكِمْه لأنَّ أبا هُرَيرةَ قال للرجل: (لَمْ تَشْهَدْهَا؟) يريد شهودًا تامًّا، فقال الرجل: بل شهدتُها. كما يُقال للصَّانع إذا لم يُحِسن صنعته: ما صنعت شيئًا، يريدون الإتقان، وللمتكلِّم: ما قلتَ شيئًا، إذا لم يُعلَم ما يقول.
          وقولُ الرجل لأبي هُرَيرةَ: (لَا أدْرِي) بما قرأ رسول الله صلعم، يدلُّ على أنَّه كان مفكرًا في صلاته، فلذلك لم يدرِ بما قرأ به رسول الله صلعم.
          إذا تقرَّر ذلك: فالفِكر في الصَّلاة أمرٌ غالبٌ لا يمكن الاحتراز مِن جميعِه، لِمَا جعل الله للشيطان مِن السبيل إلى تذكيرنا ما يُسهينا به عن صلاتنا، وخيرُ ما اشتُغل به في الصَّلاة مناجاةُ الجليل جلَّ جلاله، ثم بعدَه الفكرُ في إقامة حدود الله كالفكر في تفريق الصدقة كما فعله صلعم، أو في تجهيز جيش الله تعالى على أعدائه المشركين كما فعل عمر.
          وروى هِشامُ بن عُرْوةَ، عن أبيه، قال عُمَرُ: إنِّي لأحسب جزية البحرين وأنا في الصَّلاة. ولذلك قال صلعم: ((مَن صلَّى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه)) ليحضَّ على الإقبال على الصَّلاة، ولِيجاهدَ الشيطان في ذلك بما رغَّبَهم فيه وأعلَمَهم مِن غفران الذنوب لمن أجهد نفسه فيه.
          وهذا الانصرافُ مِن رسول الله صلعم لا يَدخل في معنى التخطِّي لأنَّ على الناس كلِّهم الانصراف بعد الصَّلاة، فمَن بقي في موضعه فهو مختارٌ لذلك، وإنَّما التخطِّي في الدخول في المسجد لا في الخروج منه.
          وأمَّا قوله صلعم: (اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا) فإنَّ أبا حنيفةَ أتاه رجلٌ قد رفع مالًا ثمَّ غاب عن مكانه سنين، فلمَّا انصرف نسيَ الموضع الذي جعله، فذكر ذلك / لأبي حنيفةَ تبركًُّا برأيه، ورغبةً في فضل دعائه، فقال له أبو حنيفةَ: توضَّأْ هذه اللَّيلة وصلِّ، وأخلص النِّيَّة في صلاتك لله، وفرِّغ قلبك مِن خواطِر الدنيا، ومِن كلِّ عارضٍ فيها. فلمَّا جاء اللَّيل فعلَ الرجل ما أمره به واجتهد ألَّا يُجرِي على بالِه شيئًا مِن أمور الدُّنيا، فجاءه الشيطان، فذكَّره بموضعِ المال فقَصَده مِن وقتِه فوجده، فلمَّا أصبح غدا إلى أبي حنيفةَ فأخبره بوجوده للمال، فقال أبو حنيفةَ: قدَّرتُ أنُّ الشيطان سيرضى أن يُشغِلَه عن إخلاصِ فعله في صلاته لله تعالى ويصالحَه على ذلك بتذكيره بما يقدِّمه مِن مالِه ليُلهيه عن صلاته استدلالًا بهذا الحديث. فعجِب جلساؤه مِن جودة انتزاعه لهذا المعنى الغامض مِن هذا الحديث، وذكره ابن الجوزيِّ في «الأذكياء».