التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا دعت الأم ولدها في الصلاة

          ░7▒ بَابُ إِذَا دَعَتِ الأُمُّ وَلَدَهَا فِي الصَّلَاةِ.
          1206- قال اللَّيْثُ: حدَّثَني جَعْفرٌ عن عَبْدِ الرَّحمن بن هُرمُزَ: قال أبو هُرَيرةَ: قال رسول الله صلعم: (نَادَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَةٍ، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، قَالَ: اللهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي...) الحديث.
          هكذا أخرجه البخاريُّ تعليقًا هنا، وأسندَه في كتاب المظالم وأحاديث الأنبياء عن مُسلم بنِ إبراهيمَ عن جَرير بنِ حَازمٍ عن محمَّد بن سِيرينَ عن أبي هُرَيرةَ.
          وروى القِصَّة في (...) مِن طريق الأعرج عن أبي هُرَيرةَ. وأخرجه مسلمٌ في الأدب من كتاب البرِّ والصِّلة مِن حديث حُمَيد بن هلالٍ عن أبي رافعٍ عن أبي هُرَيرةَ. وأسنده مِن حديث الليث أبو نُعَيمٍ مِن حديث يحيى بن بُكَيرٍ عن الليث عن جعفر بن ربيعةَ، عن الأعرج _وهو عبد الرَّحمن بن هُرمُزَ_ عن أبي هُرَيرةَ يأثر عن النَّبيِّ صلعم.
          وأسنده الإسماعيليُّ مِن حديث عاصم بن عليٍّ عن الليث به، وفيه زيادةُ: ((أنَّ رجلًا يُقال له جُرَيجٌ كان راهبًا)) _وفيه: ((زواني المدينة)) بدل: (الْمَيَامِيسِ)_ ((فعرف أنَّ ذلك يصيبه)). وفيه: ((فأرسل إليه، فأُنزل وانطُلق به إلى ملكهم، فلمَّا مرَّوا به نحو بيت الزَّواني خرجن يضحكنَ فتبسَّمَ، فقالوا: لمَ تضحك حين مُرَّ بالزَّواني؟)) وفيه: ((فقال: أبي والدي، وسمَّاه أباه، فأبرأ الله ╡ جُرَيجًا وأعظمَ أمرَه)). وبخطِّ الدِّمياطيِّ على حاشية أصله: روى الليث بن سعدٍ عن يزيدَ بن حَوْشَبٍ عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: ((لو كان جُرَيج الرَّاهب فقيهًا عالمًا لعلِمَ أنَّ إجابة أُمِّه خيرٌ مِن عبادة ربِّه ╡)). وحَوشَب هذا هو ابن طِخْمَة _بالميم_ الحِمْيَريُّ.
          وأخرج الشيخان مِن حديث محمَّد بن سيرينَ عن أبي هُرَيرةَ عن النَّبيِّ صلعم قال: ((لم يتكلَّم في المهد إلا ثلاثةٌ: عيسى بن مريم، وصاحبُ جُريجٍ، وكان جُريجٌ عابدًا فأتته أمُّه وهو يُصَلِّي، فقالت: يا جريجُ، وأتته ثانيةً وثالثةَ كذلك...)) الحديث بطوله.
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام عليه مِن أوجهٍ:
          أحدها: (المَيَامِيسِ) الزَّواني، كما سلف، الواحدة: مُومِسَةٌ. والجمع: مُومِسات _بضمِّ الميم الأولى وكسر الثانية_ و(مَيَامِس) وجاء هنا: مياميس، وهو جائزٌ. وقال ابن الجوزيِّ: أصحاب الحديث يقولون: مياميس. بزيادة ياءٍ. قال لنا ابن الخشَّاب: ليس قولهم صحيحًا. وقال صاحب «المطالع»: المومساتُ: المجاهرات بالفجور. وبالياء رُوِّيناه عن جميعهم، وكذا ذكر أصحاب العربية، وُروي: الميأميس. بالهمز.
          الثاني: قوله: (يَا بَابُوسُ) هو اسم ولدها كما قاله الدَّاوديُّ، وقال القزَّاز: هو الصغير. ووزنه فاعول، فاؤه وعينه مِن جنسٍ واحدٍ، وهو قليلٌ. وقيل: اسم عجميٌّ. وبخطِّ الدِّمياطيِّ: بابوس: الرضيعُ بالفارسيَّةِ. وهو ما ذكره ابن بطَّالٍ إثر الحديث.
          الثالث: الحديث دالٌّ على أنَّه لم يكن الكلام في الصَّلاة ممنوعًا في شريعة جُرَيجٍ، فلما لم يأتِ مِن إجابتِها ما هو مباحٌ له استُجيبت دعوة أمِّه فيه، وقد كان الكلامُ في شريعتنا جائزًا في الصَّلاة حتَّى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] وسيأتي في البخاريِّ [خ¦5006] من حديث أبي سعيد بن المعلَّى قال: ((كنتُ أصلِّي في المسجد فدعاني النَّبيُّ صلعم فلم أجبه، فقلتُ: يا رسول الله، كنت أصلِّي، قال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}...)) [الأنفال:24] الحديث.
          ولا يجوز أن يوبِّخَه الشَّارع على ترك الإجابة إلَّا وقتَ إباحة الكلام في الصَّلاة، فلمَّا نُسخ ذلك لم يجُزْ للمصلِّي إذا دعَتْ أمُّهُ أو غيرُها أن يقطع صلاته لقوله صلعم: ((لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق)) وحقُّ الله ╡ الذي شُرِع فيه ألزمُ مِن حقِّ الأبوين حتى يفرَغ منه، لكن العلماء يستحبُّون أن يخفِّف صلاته ويجيب أبويه. وصرَّح أصحابنا فقالوا: مِن خصائص سيِّدنا رسول الله صلعم أنَّه لو دعا إنسانًا وهو في الصَّلاة وجبت عليه الإجابة، ولا تبطل. وحكى الرُّوْيَانِيُّ في «بحره» ثلاثة أوجه في إجابة أحد الأبوين:
          أصحُّها: لا تجبُ الإجابة.
          ثانيها: تجب وتبطل.
          ثالثها: تجب ولا تبطل.
          والظَّاهر: عدم الوجوب إن كانت الصَّلاة فرضًا وقد ضاق الوقت، وكذا إن لم يضق لأنَّها تلزم بالشروع، خلافًا للإمام، وإن كانت نافلةً أجابهما إن علم تأذِّيهما بالترك، وهو مِن إطلاق عبد الملك المالكيِّ أنَّ إجابة الأمِّ في النَّافلة أفضل، وقاسه على الشَّارع أنَّ إجابته أفضل مِن التَّمادي في النَّافلة. وذكر القاضي أبو الوليد في قِصَّة ذي اليدين: أنَّ حكم الإجابة مختصٌّ بالشَّارع للآية السالفة، وأنَّه في الفريضة.
          وفي الوجوب في حقِّ الأمِّ دون الأب حديثٌ مرسل يوافق الوجوب، رواه ابن أبي شَيْبَةَ، عن حفص بن غياثٍ، عن ابن أبي ذئبٍ، عن محمَّد بن المنكدر عن النَّبيِّ صلعم قال: ((إذا دعتك أمُّك في الصَّلاة فأجبها، وإذا دعاك أبوك فلا تجبه)). وقال مكحولٌ: رواه الأوزاعيُّ عنه، وقال العوَّام: سألت مجاهدًا عن الرجل يُقام عليه في الصَّلاة وتدعوه أمُّه أو والده. قال: يجيبهما. /
          وفي البخاريِّ، فيما سلف: إن منعَتْهُ أمُّه شهودَ العِشاء في جماعة لم يُطِعها. وقاله مالكٌ: وإن منعته الجهادَ أطاعها، والفرق بينهما وإن كانا سُنَّةً أنَّ الخروج إلى الصَّلاة الغالبُ فيه الأمنُ بخلاف الجهادِ، كذا فرَّق ابن التِّين بينهما.
          وفي كتاب البرِّ والصِّلة عن الحسن في الرجل تقول له أمُّه: أفطِرْ. قال: يُفطر وليس عليه قضاءٌ، وله أجر الصوم والبِرِّ، وإذا قالت له أمُّه: لا تخرج إلى الصَّلاة. فليس لها في هذا طاعةٌ، هذا فريضةٌ، فدلَّ هذا أنَّ قياس قوله: إذا دعته في الصَّلاة ألَّا يجيبها.
          فأمَّا مرسَل ابن المنكدر فالفقهاء على خلافه ولا أعلم به قائلًا غير مكحولٍ، ويحتمل أن يكون معناه إذا دعته أمُّه فليجبها، يعني: بالتَّسبيح، وبما أُبيح للمصلِّي الاستجابة به، كما ذكر ابن حبيبٍ قال: مَن أتاه أبوه ليكلِّمَه وهو في نافلةٍ فليخفِّف ويسلِّم ويكلِّمه، وإذا نادته أمُّه فليبتدرها بالتسبيح، وليخفِّف وليسلِّم.
          وأمَّا قول مجاهدٍ: إذا أُقيمت عليه الصَّلاة ودعاه أبوه أو أمُّه فليجبهما. فيحتمل أن يكون أمرُه بإجابتهما إذا كان الوقت واسعًا ولم يدخل في الصَّلاة، فيجتمع له إجابة أبويه وقضاء الصَّلاة في وقتها، والحاصل إجابة دعوة الوالدة في السَّرَّاء والضَّرَّاء.
          وقوله: (اللهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي) إنَّما سأل أن يلقي في قلبه الأفضلَ، ويحمله على أولى الأمرين به، فحمله على التزام مراعاة حقِّ الله تعالى على حقِّ أمِّه، وقد يمكن أن يكونَ جُرَيجُ نبيًِّا لأنَّه كان في زمنٍ يمكن فيه النُّبوَّة، قاله ابن بطَّالٍ.
          فإن قلتَ: يحتمل أن يكون حديث أبي سعيد بن المعلَّى السَّالف قبل تحريم الكلام في الصَّلاة كما قلتُ، فكيف جاز له ترك مجاوبة النَّبيِّ صلعم إذْ كان الكلام مباحًا؟
          فالجواب: أنَّه يمكن أن يَتأوَّلَ أبو سعيدٍ قولَه: {اسْتَجِيبُوا} [الأنفال:24] إذا كنتم في غير صلاةٍ، فَعَذَرَه صلعم بذلك حين رأى التزام السكوتِ في الصَّلاة تعظيمًا لشأنها، كما تأوَّلَ أصحابُه يوم الحُدَيبية حين أمرهم بالحِلاق أَّلا يحلِقوا لَمَّا لم يبلغ الهديُ مَحِلَّه.
          فإن قلتَ: فيحتمل أن يدعوه وقت تحريم الكلام في الصَّلاة؟ فالجواب أنَّه يحتمل ذلك، ويكون استجابته له بالتسبيح، فيُوجز في صلاته، فتجتمع طاعة الله بإتمام الصَّلاة وطاعة الرسول بالاستجابة له. وأظهر التأويلين أن يدعوه صلعم وقت إباحة الكلام في الصَّلاة.
          وقد احتجَّ قومٌ مِن أهل الظاهر بحديث أبي سعيدٍ، وزعموا أنَّ كلامه عليه الصَّلاة والسلام يوم ذي اليدين خصوصٌ له، وقالوا: لا يجوز لأحدٍ أن يفعل ذلك بعد النَّبيِّ صلعم لأنَّ الله تعالى قال: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال:24] فلا يتكلَّم أحدٌ ولا يجيب غير الرسول.
          وقال ابن بطَّالٍ: لا حُجَّة فيه لأنَّ معنى الآية: استجيبوا بما استجاب به المصلِّي مِن قول: سبحان الله، وإشارة تُفهَم عنه، كما كان صلعم يرُدُّ السلام على الأنصار بالإشارة حين دخلوا عليه في مسجد قُباءٍ وهو يُصَلِّي. وكذلك قال: ((مَن نابهُ شيءٌ في صلاته فليسبِّح)).
          وفي الحديث أيضًا دلالةٌ على أنَّ مَن أخذ بالشدَّة في أمور العبادات كان أفضل إذا علم مِن نفسه قوةً على ذلك لأنَّ جُرَيجًا رعى الله في التزام الخشوع له في صلاته وفضَّله على الاستجابة لأمِّه، فعاقبه الله على ترك الاستجابة لها، بما ابتلاه مِن دعوة أمِّه عليه، ثم أراه فضلَ ما آثره مِن مناجاة ربِّه والتزام الخشوع له أن جعل له آيةً معجزةً في كلام الطفل، فخلَّصه بها مِن محنة دعوة أمِّه عليه.
          وفيه أيضًا: أنَّ مَن دعته أمُّه في صلاةٍ لا يخشى فواتها أن يجيبَها، ثمَّ يعوُد إليها، وقد أسلفنا ما فيه. وقال عبد الملك: إن كانت صلاته نافلةً، فإجابة الأمِّ أفضل مِن صلاة النَّافلة.
          فإن قلتَ: كيف قال: مَن أبوك، والزَّاني لا يَلحَقُه الولد؟ فالجواب: إمَّا أن يكون لاحِقًا في شرعهم، أو المراد: مِن ماءٍ مَن أنت؟ وسمَّاه أبًا مجازًا. قال القُرْطبيُّ: وقد يتمسَّك به مَن قال: إنَّ الزنا يحرِّم كالحلال. وهو رواية ابن القاسم عن مالكٍ في «المدوَّنة»، وفي «الموطَّأ»: أنَّ الزِّنا لا يحرِّم حلالًا.
          قال: ويستدلُّ به أيضًا أنَّ المخلوقة مِن زناه لا تحلُّ للزان بأمِّها، وهو المشهور خلافًا لابن الماجِشُون، وهو _أعني: قول ابن الماجِشُون_ الأصحُّ عند الشافعيَّةِ، ووجه التمسُّك على المسألتين أنَّه صلعم حكى عن جُرَيجٍ أنَّه نسب ابن الزنا للزَّاني، وصدَّق اللهُ نِسبته بما خرق له مِن العادة في نُطق الصبيِّ بشهادته له بذلك، فكانت تلك النسبة صحيحةً، فيلزم على هذا أن تجري بينهما أحكام الأُبُوَّةِ والبُنُوَّةِ مِن التوارث والولايات وغير ذلك.
          وقد اتَّفق المسلمون على أَلَّا توارثَ بينهما، فلم تصحَّ تلك النسبة لأنَّا نُجيبُ عن ذلك بأنَّ ذلك موجِبٌ ما ذكرنا، وقد ظهر ذلك في الأمِّ مِن الزِّنا، فإنَّ أحكام الأمومة والبنوَّة جاريةٌ عليهما، فما انعقد عليه الإجماع مِن الأحكام أنَّه لا يجوز بينهما استثنيناه، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل.
          وفيه أيضًا: وقوعُ كرامات الأولياء، وهو قول جمهور أهل السنَّة والعلماء، وقد نُسِب لبعض العلماء إنكارُها، والظنُّ بهم أنَّهم ما أنكروا أصلها لتجويز العقل لها، ولِما وقع في الكتاب والسنَّة، وأخبار صالحي هذه الأُمَّةِ ممَّا يدلُّ على وقوعها، وإنَّما محل الإنكار ادِّعاء وقوعها فيمن ليس موصوفًا بشروطها، ولا هو أهلٌ / لها.
          وفيه: أنَّ كرامات الأولياء قد تقع باختيارهم وطلبهم، وهو الصحيح عند أصحابنا المتكلِّمين، ومنهم مَن قال: لا تقع باختيارهم وطلبهم.
          وفيه: أنَّ الكرامات قد تكون بخوارق العادات على جميع أنواعها، ومنعه بعضُهم وادَّعى أنَّها تختصُّ بمثل إجابة دعاءٍ ونحوه، وهذا غلطٌ مِن قائله وإنكارٌ للحسِّ، بل الصواب جريانُها بقلب الأعيان، وإحضارِ الشيء مِن المعدوم ونحوِه.
          وروى عُمارة أنَّ جُريجًا سأله وهو في بطنها فأجابه ثمَّ أجابه حين وُلد، وهذا مِن تفضُّل الربِّ جلَّ جلاله على مَن أطاعه. قال أبو عبد الملك: وهذا مِن عجائب بني إسرائيل، وهو مِن أخبار الآحاد.
          فائدة: تكلَّم أيضًا في المهد: شاهدُ يوسُفَ، كما ذكره القُرْطبيُّ عن ابن عبَّاسٍ، ويحيى بن زكريا عن الضَّحَّاك. ورضيعُ التي تقاعست عن الأخدود، رواه صُهَيبٌ. والحديث: ((لم يتكلِّم في المهد إلَّا ثلاثةٌ))، وذِكْرُ الأولين ظاهرُه الحصرُ، ولا شكَّ أنَّ الأوائل لا خلاف فيهم والباقون مختلفٌ فيهم، أو أنَّ الله تعالى أَطْلَعَ نبيَّه ثانيًا زيادةً على ما أطلعه عليه أولًا. وقال ابن عبَّاسٍ وعكرمةَ: كان صاحبُ يوسفَ رجلًا ذا لحيةٍ. وقال مجاهدٌ: الشَّاهد هو القميص.