التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يجوز من البصاق والنفخ في الصلاة

          ░12▒ بابُ مَا يَجُوزُ مِن البُصَاق والنَّفْخِ في الصَّلاة.
          (ويُذكَرُ عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو: نَفَخَ النَّبِيُّ صلعم فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ).
          1213- ثمَّ أسندَ فيه حديثَ ابن عُمَرَ (أنَّه ◙ رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ المَسْجِدِ...) الحديث.
          1214- وحديث أنسٍ: (إِذَا كَان أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاة، فَإنَّه يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ...) الحديث.
          أمَّا حديث عبد الله بن عَمرٍو المعَلَّق فأخرجه أبو داودَ والنَّسائيُّ والتِّرمذيُّ في «شمائله». وإنَّما قال: (وَيُذكَر) لأنَّه مِن رواية عطاء بن السَّائب، ولم يخرِّج له إلَّا حديثًا واحدًا / مقرونًا، واختلط بآخرِه فيُّحتَجُّ بمَن سمع منه قبلَه. وحديث ابنِ عُمَرَ وأنسٍ سلَفَا في المساجد.
          وشيخُ البخاريِّ في حديث أنسٍ: محمَّدٌ وهو بُندار، واعترض أبو عبد الملك بأنَّ البخاريَّ ذكر النفخ ولم يذكر له حديثًا، وهو عجيبٌ، فقد ذكره معلَّقًا.
          إذا عرفتَ ذلك، فاختلف العلماء في النَّفْخ في الصَّلاة متعمِّدًا، فكرهه طائفة ولم توجِب على مَن نفخ إعادةً، رُوي ذلك عن ابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ والنَّخَعيِّ، ورواية عن مالكٍ، وهو قول أبي يوسفَ وأشهبَ وأحمدَ وإسحاقَ، وقالت طائفةٌ: هو بمنزلة الكلام يقطعُ الصَّلاة، ورُوي عن سعيد بن جُبيرٍ، وهو قول مالكٍ في «المدوَّنة»: وكذا مَن تنحنحَ، وعندنا البطلان إن بان حرفان.
          احتُجَّ للأوَّل بأنَّه صلعم يُحتمل أنَّه سَها أو تنفَّس صعداء، وبدَرَ ذلك منه مِن الخوف مِن الكسوف، وأنَّها أيضًا ليست حروفَ هجاء، واحتجَّ مالكٌ للثاني بقوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]. وفي المسألة قولٌ ثالثٌ: أنَّه إن كان يسمع كالكلام فيقطع الصَّلاة، وهو قول أبي حنيفةَ والثَّوريِّ ومحمَّدٍ، ورجَّح ابن بطَّالٍ الأوَّل فقال: إنَّه أولى لِمَا ذكره البخاريُّ.
          وذكر ابن أبي شَيْبَةَ عن أبي صالح أن قريبًا لأمِّ سَلمة صلَّى فنَفَخَ، فقالت أمُّ سلَمة: لا تفعلْ، فإنَّ رسولَ الله صلعم قال لغلامٍ لنا أسود: ((يا رَباح، ترِبَ وجهُك)) وقال ابن بُريدةَ: كان يُقال: مِن الجفاء أن يَنفخَ الرجل في صلاتِه.
          فدلَّ هذا أنَّ مَن كرهه إنَّما جعله مِن الجفاء وسوءِ الأدب، لا أنَّه بمنزلة الكلام عنده، أَلَا ترى أنَّ أمَّ سلَمةَ لم تأمر قريبَها حين نفخ في الصَّلاة بإعادتها؟ ولو كان بمنزلة الكلام عندَها ما تركت بيان ذلك، ولا فَعَله الشارعُ، ويدلُّ على صِحَّة هذا اتِّفاقُهُم على جواز التنخُّم والبُصاق في الصَّلاة، وليس في النَّفْخ مِن النطق بالفاء والهمزة أكثرُ ممَّا في البُصاق مِن النطق بالفاء والتاء اللتين تُفهمان مِن رمي البُصاق، ولَمَّا اتفقوا على جواز البُصاق في الصَّلاة جاز النفخُ فيها، إذْ لا فرق في أنَّ كلَّ واحدٍ منهما بحروفٍ. ولذلك ذكر البخاريُّ حديثَ البُصاق في هذا الباب ليستدِلَّ به على جواز النَّفْخ، لأنَّه لم يُسنِدْ حديثَ عبد الله بن عمرٍو، واعتمدَ على الاستدلال مِن حديث النُّخامة والبُصاق وهو استدلالٌ حسنٌ.
          وأما البُصاق اليسير فإنَّه يُحتمل في الصَّلاة إذا كان على اليسار أو تحت القدم كما في الحديث، غيرَ أنَّه ينبغي إرسالُه بغير نطقٍ بحرفٍ مثلِ التاء والفاء اللتين تُفهمان مِن رَمي البُصاق لأنَّ ذلك مِن النطق، وهو خلاف الخشوع فيها.
          وَوَرَدَ: ((مَن نفخ في صلاته فقد تكلَّم)) وفي «المصنَّف» عن ابن جبيرٍ: ما أُبالي نفختُ في الصَّلاة أو تكلَّمتُ، النَّفْخ في الصَّلاة كلامٌ. وكان إبراهيم يكرهه، وكذا ابن أبي الهُذَيل، ومكحولٌ وعطاءٌ وأبو عبد الرَّحمن والشَّعبيُّ وأمُّ سلمةَ ويحيى بن أبي كثيرٍ. وعن ابن عبَّاسٍ: النَّفخ في الصَّلاة يقطع الصَّلاة.
          وقوله: (إِنَّ اللهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ، إِذَا كَانَ فِي صَلاَتِهِ فَلاَ يَبْزُقَنَّ) خصَّ النهي إذ ذاك لشرف الصَّلاة والاستقبال. والمراد بقوله: (قِبَلَ أَحَدِكُمْ) ثوابُه وإحسانه مِن قِبَلِ وجهِه، فيجب تنزيه تلك الجهة عن البُصاق، أو ما أمره بتنزيهه وتعظيمه قِبَل وجهه، وأنَّ في تعظيم تلك الجهة تعظيم الربِّ جلِّ جلاله. وقيل: معناه أنَّ مقصوده بينه وبينها فيُصَان، وهذا كلُّه في البُصاق الظاهر.
          و(النُّخَامَةُ): النُّخَاعة، قاله ابن فارسٍ. قال الدَّاوديُّ: وهي الشيء الخاثر ينزل مِن الرأس أو يخرج مِن الصدر فيخالط البُصاق. و(حَتَّهَا): أزالها لأنَّه كريه المنظر.
          وقول سلمانَ وإبراهيمَ النَّخَعيِّ: إنَّ البُصاق نجسُ. خلافُ الإجماع ولا يكتفي بدفن الدَّم في المسجد، قال مالكٌ: مَن دميَ فوه فيه فلينصرف حتَّى يزول عنه. قال: ولا بأس أن يبصق أمامه أو عن يساره أو عن يمينه، والأفضل عن اليسار. قال أبو عبد الملك: ولعلَّ هذا الحديث لم يبلغ مالكًا. ومعنى قوله: ((تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى)) أي: مع دفنه.