التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة

          ░11▒ بابُ إِذَا انْفَلتَت الدَّابَّةُ في الصَّلَاةِ.
          وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنْ أُخِذَ ثَوْبُهُ يَتْبَعُ السَّارِقَ وَيَدَعُ الصَّلاة.
          1211- وذَكَرَ فيه عن الأزْرَق بنِ قَيسٍ قالَ: (كُنَّا بِالأَهْوَازِ نُقَاتِلُ الحَرُورِيَّةَ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا _قَالَ شُعْبَةُ: هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ..._) الحديث.
          1212- وعن عُرْوةَ قالَ: قَالت عَائِشَةُ: (خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً...) الحديث. وفيه: (حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ).
          الشرح: قِصَّة الأزرق ستأتي في الأدب [خ¦6127]، وهو مِن أفراده، وفي بعض روايات الإسماعيليِّ: ((كنَّا نقاتل الأزارقة بالأهواز مع المهلَّب بن أبي صُفْرة))، وفيه: ((فمضت الدَّابَّةُ وانطلق أبو بَرزةَ حتَّى أخذها ثمَّ رجع القَهقرى، فقال رجلٌ كان يرى رأيَ الخوارج)). وفيه: ((فقلتُ للرجل: ما أرى الله إلَّا مُخزيك، تسبُّ رجلًا / مِن الصَّحابة!)) وفيه: ((قال: قلتُ: كم صلَّى؟ قال: ركعتين)). وهو عند البَرْقانيِّ. وفي رواية حمَّاد بن زَيْدٍ عنده: ((فجاء أبو بَرزة الأسلَميُّ فدخل في صلاة العصر)). وحديثُ عائشة سلف في الخسوف.
          و(الأَهْوَازُ) قال صاحب «العين»: هي سبع كُوَرٍ بين البصرة وفارسٍ، لكلِّ كُورَةٍ منها اسمٌ، ويجمعها الأهواز، ولا تُفرد واحدة منها بِهَوَز. كذا قاله صاحب «المحكم». وقال غيره: بلادٌ واسعةٌ متَّصِلةٌ بالجبل وأصبهانَ. وقال البكريٌّ: بلدٌ يجمع سبع كُورٍ: كورة الأهواز، وجُنْدَيْ سَابور والسُّوس وسُرَّق ونهرَبَين ونهر تِبرا. وقال ابن السَّمعانيِّ: يُقال لها الآن: سوق الأهواز.
          وفي «الكامل» لأبي العبَّاس المبرِّد أنَّ الخوارج تجمَّعت بالأهواز مع نافع بن الأزرق سنة أربعٍ وستِّين، فلمَّا قُتل نافعٌ وابن عُبَيْس رئيسُ المسلمين مِن جهة ابن الزُّبير ثمَّ خرج إليهم حارثة بن بدرٍ، ثمَّ أرسل إليهم ابنُ الزُّبير عثمانَ بن عبيدِ الله، ثمَّ تولى القُباع فبعث إليهم المهلَّب، وكلٌّ مِن هؤلاء الأمراء يمكثون معهم في القتال جُبنًا، فلعلَّ ذلك انتهى إلى سنة خمس. لكنْ أبو بَرزة مات سنة ستِّين، وأكثر ما قيل: سنة أربع. والحَرُورِيَّة _بفتح الحاء المهملة وضمِّ الراء_ نسبةً إلى حَرُوراءَ موضع.
          وذكر أبو بَرزة العلَّة في فعله وهي الكَلَفة التي تلحقه في طلبها.
          ولا خلاف بين الفقهاء في أنَّ مَن انفلتت دابَّته وهو في الصَّلاة فإنَّه يقطع الصَّلاة ويتبعها. واختلف قول مالكٍ في الشَّاة إذا أكلت العجين أو قطعت الثوب وهو يُصَلِّي، فقال مرَّةً: لا يقطع الفرض. وقال ابن القاسم وغيره: يقطعه. وكذا قال ابن القاسم في المسافر تنفلتُ دابَّته ويخاف عليها، أو على صبيٍّ أو أعمى يخاف أن يقع في بئرٍ أو نارٍ، أو ذكر متاعًا يخاف أن يتلَف، فذلك عُذرٌ يبيح له أن يستخلف، ولا يفسد على مَن خلفه شيئًا.
          وقال مالكٌ في «المختصر»: مَن خشي على دابَّته الهلاك أو على صبيٍّ رآه في الموت، فليقطع صلاته. قال ابن التِّين: والصواب أنَّه إذا كان شيءٌ له قَدْرٌ يخشى فواته يقطعُ، وإن كان يسيرًا فتماديه على صلاته أولى مِن صيانة قدرٍ يسير مِن ماله. هذا حكم الفذِّ والمأموم، فأمَّا الإمام ففي كتاب ابن سُحنُون: إذا صلَّى ركعةً ثمَّ انفلتت دابَّته وخاف عليها أو خاف على صبيٍّ أو أعمى أن يقعَا في بئر، أو ذَكَر متاعًا يخاف تلفه، فذلك عُذرٌ يبيح له أن يستخلِفَ، ولا يُفسِد على مَن خلفه شيئًا.
          وعلى قول أشهبَ إن لم يبعد واحدٌ عنهم بنى قياسًا على قوله: إذا خرج لغَسْل دَمٍ رآه في ثوبه أحبُّ إليَّ أن يستأنف. وإن بنى أجزأه.
          وقول أبي بَرزةَ للذي أنكر عليه قطعَ الصَّلاة واتِّباعَ دابَّته: (شَهِدْتُّ تَيْسِيرَ النَّبِيِّ صلعم) يعني: تيسيرَه على أمَّته في الصَّلاة وغيرها، ولا يبعُد أن يفعل هذا أبو بَرزةَ مِن رأيه دون أن يشاهده مِن الشارع. وصحَّف الدَّاوديُّ (تَيسِيرَه) بـ «تُسْتُر» فقال: فتح تُسْتَر كان في زمن عُمَرَ. وهو تصحيفٌ عجيبٌ، فالحديث يدلُّ على خلافه.
          وقوله: (وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم سِتَّ غَزَوَاتٍ _أَوْ سَبْعًا_ أو ثَمَانِيًا). هو شكٌّ مِن المحدِّث أو مِن أبي بَرزةَ. وفيه أنَّه إذا هُضِمَ مِن امرِئٍ ذَكَر فعلَه وفضائلَه.
          وقوله: (وَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَنْ أرْجِعَ مَعَ دَابَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا فَيَشُقُّ عَلَيَّ). أخبر أنَّ قطعَه للصلاة واتِّباعه لدابته أفضلُ مِن تركها، وإن رجعتْ إلى مكان علفها وموضعها في داره، وهو المراد بمألَفها. أي: الموضع الذي ألِفته واعتادته، فكيف إن خشي عليها أنَّها لا ترجع إلى داره فهذا أشدُّ لقطعه للصلاة واتِّباعِه لها، ففي هذا حُجَّةٌ للفقهاء في أنَّ كلَّ ما خُشي تلفُه مِن متاعٍ أو مالٍ أو غير ذلك مِن جميع ما بالناس إليه حاجةٌ أنَّه يجوز قطع الصَّلاة وطلبُه، وذلك في معنى قطع الصَّلاة لهرب الدابَّةِ.
          وأمَّا قوله صلعم في حديث عائشة: (لَقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ) فهذا المشيُ عملٌ في الصَّلاة. وكذلك قولُه بعدَه: (حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ) عَملٌ أيضًا إلَّا أنَّه ليس فيه قطعٌ للصلاة ولا استدبارٌ للقبلة، ولا مشيٌ كثيرٌ مثلُ مَن يمشي مَن انفلتت دابَّته وبعُدت عنه، فدلَّ أنَّ المشي إلى دابَّته خُطًى يسيرةً نحوُ تقدُّمه صلعم إلى القِطفِ، وكانت دابتُّه قريبًا منه في قبلته أنَّه لا يقطع صلاته.
          وقد سُئل الحسنُ البصريُّ عن رجلٍ صلَّى فأشفق أن تذهب دابتُّه قال: ينصرف، قيل له: أيُتِمُّ على ما مضى؟ قال: إذا ولَّى ظهرَه القبلةَ استأنف الصَّلاة. وسُئل قَتَادةُ عن رجلٍ دخلت الشاة بيته وهو يُصَلِّي فطأطأ رأسَه ليأخذ القصبة يضربها. قال: لا بأس بذلك.