التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي أو أمتي

          ░17▒ (بَابُ كَرَاهِيَةِ التَّطَاوُلِ عَلَى الرَّقِيقِ، وَقَوْلِهِ: عَبْدِي وأَمَتِي)
          وَقَالَ تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] وَقَالَ: {عَبْدًا مَمْلُوكًا} [النحل:75] {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ} [يوسف:25] وَقَالَ: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] وَقَالَ النَّبيُّ صلعم: (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) وَ{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42] سَيِّدِكَ، وَ(مَنْ سَيِّدُكُمْ؟)
          ثمَّ ذكر سبعة أحاديث:
          2550- حديثَ ابن عمر السَّالفَ [خ¦2546] في الباب قبلَه: (إِذَا نَصَحَ العَبْدُ سَيِّدَهُ...) إلى آخرِه.
          2551- وحديثَ أبي موسى السَّالفَ [خ¦97] فيْه أيضًا: (المَمْلُوكُ الَّذي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذي لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ، وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ أَجْرَانِ).
          2552- وحديثَ أبي هريرة عن رَسُول الله صلعم: (لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَاسْقِ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي مَوْلاَيَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلاَمِي).
          2553- وحديثَ ابن عمر: (مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنَ العَبْدِ...) إلى آخرِه، وقد سلف [خ¦2491].
          2554- وحديثَ نافع بن عبد الله: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) بطولِه.
          2555- وحديثَ أبي هريرة وزيد بن خالدٍ: (إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَاجْلِدُوهَا) وقد سلف [خ¦2152].
          الشَّرح: التَّطاول عَلَى الرَّقيق مكروهٌ لأنَّ الكلَّ عبيد الله وهو لطيفٌ بعبادِه رفيقٌ بِهم، فينبغي للسَّادة امتثال ذلك في عبيدِهم ومَنْ مَلَّكَهم الله إيَّاهم، وواجبٌ عليْهم حُسن الملك ولين الجانب، كما يجب عَلَى العبيد حُسن الطَّاعة والنُّصح لساداتِهم والانقيادُ لَهم وترك مخالفتِهم، وقد جاء في الحديث ((اللهَ اللهَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَلَوْ شَاءَ اللهُ لملَّكهم إيَّاكُم)).
          وإنَّما منع (أَطْعِمْ رَبَّكَ...) إلى آخرِه لأنَّ الإنسان مربوبٌ متعبَّدٌ بإخلاص التَّوحيد لخالقِه، فُكِرَه لَه المضاهاة بالاسم لئلَّا يكون في معنى الشِّرك، والحُرُّ والعبد في ذلك سواءٌ، بخلاف ما لا تعبد عليْه مِنْ سائر الجمادات والحيوان، فيُقال: ربُّ الدَّابة والثَّوب ولم يمنع العبد أن يقول: (سَيِّدِي ومَوْلاَيَ) لأنَّ مرجع السِّيادة إلى معنى الرِّئاسة عَلَى مَنْ تحت يدِه والسِّياسةِ لَه وحسن التَّدبير، ولذلك سُمِّي الزَّوج سيِّدًا، قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25].
          وقد قيل لمالكٍ: هل كَرِهَ أحدٌ بالمدينة قولَه لسيِّدِه: يا سيِّدي؟ قال: لا، واحتجَّ بهذه الآية وبقولِه تعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران:39] قيل لَه: يقولون: السَّيِّدُ هو الله، فقال: أين هو في كتاب الله تعالى؟ وإنَّما في القرآن {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] قيل: أتكره أن ندعو يا سيِّدي؟ قال: ما في القرآن أحبُّ إليَّ ودعاءُ الأنبياء.
          وقال بعض أهل اللُّغة إنَّما سُمِّي السَّيِّد لأنَّهُ يملك السَّواد الأعظم، وقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ في الحسن: ((إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ)) فأمَّا لفظة (مَوْلاَيَ) فلَها وجُوْه في التَّصريف مِنْ وليٍّ وناصرٍ وابن عمٍّ وحِلفٍ، ولكن لا يُقَال: المولى مِنْ غير إضافةٍ إلَّا لله تعالى، واختُلِف هل يُطْلَق عَلَى الله اسم سيِّدٍ؟ ولا يُقال: السَّيِّد عَلَى الإطلاق لِمَنْ أجاز أن يُسمَّى بِه الخالق إلَّا لله تعالى.
          فصلٌ: وكره أن يقول عبدي لأنَّ هذا الاسم مِنْ باب المضاف، ومقتضاه إثبات العبوديَّة لَه، وصاحبُه الَّذي هو المالك عبدٌ لله تعالى، متعبَّدٌ بأمرِه ونهيِه، فإدخال مملوكِ الله تعالى تحت هذا الاسم يوجب الشِّرك، ويعني المضاهاة، فلذلك اسْتُحِبَّ لَه أن يقول: فتايَ، والمعنى في ذلك كلِّه راجعٌ إلى البراءة مِنَ الكبر والتزام الذُّلِّ، وهو أليقُ بالعبد المملوك ألَّا يقول: فلانٌ عبدي، وإن كان قد ملك قياده في الاستخدام ابتلاءً فيْه مِنَ الله تعالى لخلقِه، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20].
          وقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إن قال: عبدي، أو أَمَتي ولم يردِ التكبُّر فأرجو ألَّا إثمَ عليْه.
          وقول يوسف: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42] خاصَّةٌ بمَنْ يعقل، وما اشتهرت بِه عادتُهم في المخاطبة، وفيْه نظرٌ لابن التِّينِ لأنَّ النَّبيَّ لا يتلفَّظ إلَّا بما هو سائغٌ.
          وقال ابن بَطَّالٍ: ما جاء في الباب مِنَ النَّهي عن التَّسمية فإنَّهُ مِنْ باب التَّواضع، وجائزٌ أن يقول الرَّجل: عبدي وأَمتي لأنَّ القرآن قد نطق بذلك في قولِه تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، وإنَّما نهى ◙ عن ذلك عَلَى سبيل التَّطاول والغِلظة لا عَلَى سبيل التَّحريم، واتَّباعُ ما حضَّ عليْه أولى وأجمل، فإنَّ في ذلك تواضعًا لله لأنَّ قول الرَّجل: عبدي وأمتي يشترك فيْه الخالق والمخلوق، ويُقال: عبد الله وأَمَة الله، فكره ذلك لاشتراك اللَّفظ، وأمَّا الرَّبُّ فهي كلمةٌ وإن كانت مشتركةً وتقع عَلَى غير الخالق للشَّيء كربِّ الدَّابة والدَّار، يُراد صاحبُهما، فإنَّها لفظةٌ تختصُّ بالله في الأغلب والأكثر، فوجبَ ألَّا تستعمل في المخلوقين لنفي الله الشَّركةَ بينَهم وبين الله، ألا ترى أنَّهُ لا يجوز أن يُقال لأحدٍ غيرِ الله إلهٌ ولا رحمن، ويجوز أن يُقال: رحيمٌ، لاختصاص الله تعالى بهذه الأسماء، وكذلك الرَّبُّ لا يُقال لغير الله.
          فصل: وقولُه: (وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا) سُمِّي زوج المرأة بعلًا لأنَّهُ يعلو عليْها، ومنْه قيل: لما شرب مِنَ السَّماء بعلٌ، والأمر ببيع الأمة الزَّانية في الثَّالثة أو الرَّابعة، قد أسلفنا أنَّهُ للنَّدب عند الجمهور خلافًا لداود، وذكر البخاريُّ في التَّبويب (العَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ) يـُحْتَمل أن يريد مال سيِّدِه الَّذي ائتمنَه عليْه، ويحْتَمل أن ينسبَه إلى السَّيِّد مجازًا، إذ لَه انتزاعه منْه، والدَّليل عَلَى ذلك ما أسلفنا مِنْ قولِه: ((مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فمالهُ للَّذي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ)) وهذا مذهب مالكٍ، ومذهب الشَّافعيِّ وأبي حنيفة أنَّهُ لا يملك، وعليه احتجَّ البخاريُّ بقولِه: (وَالعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ) كما ستعلمه، لأنَّ الرِّقَّ منافٍ لذلك، وقالَه لسيِّدِهِ عند عِتقِه وبيعِه إيَّاه، وإن لم يشترط مالَه سيِّدُه، ورُوي عن ابن مَسْعودٍ وابن عبَّاسٍ وأبي هريرة وسعيد بن المسيِّب، وهو قول الثَّوْريِّ، وبِه قال أحمد وإسحاق.
          وقالت طائفةٌ: مالُه لَه دون سيِّدِه في العِتق والبيع، روي ذلك عن عمر وابنِه وعائشة والنَّخَعِيِّ والحسن.
          قال ابن بَطَّالٍ: واضطرب قول مالكٍ في ملك العبد، فقال: مَنْ باع ولَه مالٌ فمالُه للبائع إلَّا أن يشترط المبتاع، وقال فيمن أعتق عبدًا أنَّ مالَه للعبد إلَّا أن يشترط السَّيِّد، فدلَّ الأوَّل: أنَّهُ يملك، والثَّاني لا، والحجَّةُ لَه في البيع حديث ابن عمر: ((مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ...)) الحديث.
          والثَّاني حديثُه أيضًا: ((مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَه سَيِّدُهُ)).
          وقال ابن شهابٍ: السُّنَّةُ أنَّ العبد إذا أُعتق تبعَه مالُه. ولم يكن أحدٌ أعلم بسنَّةٍ ماضية منْه، وقال قَتادة في قولِه تعالى: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] هو الكافر وقد سلف، وإضافة المال إلى العبد لأنَّهُ بيدِه.