التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب في العتق وفضله

          ░1▒ (بَابٌ: فِي العِتْقِ وَفَضْلِهِ) وَقَوْلِهِ تعالى: ({فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:14]).
          2517- ثُمَّ ساق حديثَ سعيد بن مَرْجانَةَ صاحبِ عليِّ بن حسينٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَءًا مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ).
          قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ: فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، فَعَمَدَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَعْتَقَهُ.
          معنى ({فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13]) اقتحامُ العَقَبة فكُّ رقبةٍ، أو فلم يقتحم العقبةَ إلَّا مَنْ فكَّ رقبةً أو أطعم، وفكُّها: تخليصُها مِنَ الأسر أو عِتقُها مِنَ الرِّقِّ، وسُمِّي الرَّقيق رقبةً لأنَّهُ بالرِّقِّ كالأسير المربوط في رقبتِه، قال سعيد بن مَسْعَدة: قراءة {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13] أحبُّ إليَّ، لأنَّهُ فسَّر العقبة أي في فكِّ رقبةٍ.
          وكذا قال الزَّجَّاج مَنْ قرأ: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13] فالمعنى اقتحامُ العقبة فكُّ رقبةٍ أو إطعامٌ، ومَنْ قرأ (فكَّ رقبةً) فهو محمولٌ عَلَى المعنى، والمسْغَبة المجاعة.
          وقولُه: ({ذَا مَقْرَبَةٍ}) أي ذا قَرَابة، تقول: زيدٌ ذو قرابتي وذو مَقربتي، وزيدٌ قرابتي قبيحٌ لأنَّ القرابة المصدر. قال الشَّاعر:
يَبْكِي الغَرِيبُ عَلَيهِ ليسَ يَعْرِفهُ                     وَذُو قَرَابتهِ في الحَيِّ مَسْرُورُ
          ولابن زَنْجويَه في «فضائل / الأعمال» مِنْ حديث البَرَاء بن عَازبٍ جاء أعرابيٌّ إلى رَسُول الله صلعم فقال: علِّمني عَمَلًا يُدْخِلُني الجنَّةَ، فقال: ((لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ، لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقِ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ)) قال: يا رَسُول اللهِ، أَوَ لَيْسَا وَاحِدًا، قال: ((لا، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا)).
          وللبَيهَقيِّ: ((مَنْ أَعْتَقَ امْرءًَا مُسْلِمًا كان فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مسلمتين كانتا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ)).
          وحديث أبي هريرة أخرجَه مسلمٌ أيضًا، وفي روايةٍ له: ((مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، أَعْتَقَ اللهُ تعالى بِكُلِّ إِرْبٍ منه إِرْبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ)).
          ولَهما مِنْ حديثِه: ((مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائهِ مِنَ النَّارِ حتَّى فَرْجُهُ بِفَرْجِهِ)). ذكرَه البخاريُّ في كتاب النُّذور، ولأبي الفضل الجوزيِّ: ((حتَّى إنَّهُ ليُعْتِقُ اليَدَ باليَدِ والرِّجْلَ بالرِّجْلِ والفَمَ بالفَمِ)). فقال لَه عليُّ بن حسينٍ: أنتَ سمعتَ هذا مِنْ أبي هريرة؟ قال: نعم، قال: ادْعُوا لي أَفْرَهَ غلماني مطرِّفًا، فأعتقَه.
          وجاء في فَضلِه عِدَّةُ أحاديثَ:
          منْها حديث أبي أُمَامة وغيرِه مِنَ الصَّحابة مرفوعًا: ((أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرًا مُسْلِمًا كَانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئ كلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ، وأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امرأتين مُسْلِمَتَينِ كانتا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِئ كلُّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ، وأَيُّمَا امرأةٍ مُسْلِمةٍ أَعْتَقَت امرأةً مُسْلِمةً كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ يجزئ كلُّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهَا)) ثُمَّ قال: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.
          ولأبي داود عن مُرَّةَ بن كعبٍ أو كعب بن مُرَّةَ الأسلميِّ عن النَّبيِّ صلعم مثلُه.
          ولأبي داود والنَّسائيِّ مِنْ حديث واثِلةَ بن الأسقعِ: أتينا النَّبيَّ صلعم في صَاحبٍ لنا قد استوجب _يعني النَّارَ_ بالقتل، فقال: ((أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقِ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ)) وصحَّحه ابن حِبَّانَ والحاكم، وقال: صحيحٌ عَلَى شرط الشَّيخين.
          ومعنى أوجب ركب معصيةً تُوجِب النَّار، ويُقال للحسنة أيضًا مُوجبةٌ.
          ولأبي داود عن عمرو بن عَبَسَة سمعت رَسُول الله صلعم يقول: ((أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا، فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ عَظْمًا مِنْ عِظَامِ مُحَرَّرِهِ مِنَ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسْلَمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مَسْلَمَةً، فَإِنَّ اللهَ ╡جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِ مُحَرَّرِهَا مِنَ النَّارِ)).
          وللجوزيِّ: ((مَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مُسْلِمَةً كانتْ فِدْيَتهُ مِنْ جهَنَّمَ)).
          ولأحمد مِنْ حديث عُقْبَة بن عامرٍ مرفوعًا: ((مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، فهيَ فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ)) وفي لفظٍ ((فِدَاؤهُ)) قال الحاكم: صحيح الإسناد وشاهدُه حديثُ أبي موسى يعني الآتيَ بعدُ وعن معاذٍ مرفوعًا مثلُه.
          وللنَّسائيِّ مِنْ حديث مالك بن عمرٍو القُشَيريِّ: سمعتُ رَسُولَ الله صلعم يقول: ((مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ)). ولأحمد: ((رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَهِيَ فِدَاؤُهُ مِنَ النَّارِ، مكان كلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَام محرِّرهِ بِعَظْمٍ مِنْ عِظَامهِ)). وللحاكم مِنْ حديث أبي موسى مرفوعًا: ((مَنْ يُعْتِقْ أَعْتَقَ اللهُ مَكَانَ كُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ)) ولابن زَنْجَوَيهِ مِنْ حديث عائشة مرفوعًا: ((مَنْ أَعْتَقَ عُضْوًا مِنْ مملُوكٍ أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا)).
          قال الخَطَّابيُّ: فعلى هذا لا ينبغي أن يكون المُعتَق ناقصًا بعَوَرٍ أو شَلَلٍ وشِبهِهما، ولا معيبًا بعيبٍ يُضِرُّ بالعمل ويُخِلُّ بالسَّعي والاكتساب، وربَّما كان نقصُ بعض الأعضاء زيادةً في الثَّمن كالخصيِّ، إذ يصلح لِمَا لا يصلحُ لَه غيرُه مِنْ حِفْظ الحريم ونحوِه فلا يُكْرَه، عَلَى أنَّهُ لا يخلُّ بالعمل.
          وقال القاضي عياضٌ: اختلف العلماء أيُّما أفضل عتقُ الإناث أو الذُّكور؟
          فقال بعضُهم: الإناث أفضل، لأنَّها إذا عَتَقَت كان ولدُها حُرًّا سواءٌ تزوَّجها حُرٌّ أو عبدٌ، وقال آخرون: الذَّكَر أفضل لحديث أبي أُمَامة، ولِمَا في الذَّكر مِنَ المعاني العامَّة الَّتي لا تُوجَد في الإناث، ولأنَّ مِنَ الإماء مَنْ لا ترغب في العتق وتضيع بِه بخلاف العبد وهذا هو الصَّحيح، واستحبَّ بعض العلماء أن يُعْتِقَ الذَّكرُ الذَّكرَ والأنثى مثلَها ذكرَه الفرغانيُّ في «الهداية» لتتحقَّقَ مقابلة الأعضاء بالأعضاء.
          تنبيهاتٌ:
          أحدُها: لا شكَّ أنَّ الزِّنا كبيرةٌ لا تُكَفَّر إلَّا بالتَّوبة، فيُحْمَلُ الحديث عَلَى أنَّهُ أراد مسَّ الأعضاء بعضِها بعضًا مِنْ غير إيلاج وهذا صغيرةٌ، أو يحتملُ أن يريد أنَّ لعِتق الفَرْج حظًّا في الموازنة فيُكفِّر الزِّنا.
          ثانيْها: قَالَ المُهلَّب: فيْه فضلُ العِتق، وأنَّهُ مِنْ أرفع الأعمال، وممَّا يُنجِّي اللهُ بِه مِنَ النَّار، وفيْه أنَّ المجازاة قد تكون مِنْ جنس الأعمال، فجوزيَ المعتِق للعبد بالعِتق مِنَ النَّار، وإن كانت صدقةً تصدَّق عليْه واجتنى في الآخرة.
          ثالثُها: هذا الحديث يبيِّنُ أنَّ تقويم باقي العبد عَلَى مَنْ أعتق شِقْصًا منْه إنَّما هو لاستكمال عِتق نفسِه مِنَ النَّار، وصارت حُرمة العِتق تتعدَّى إلى الأموال لفضل النَّجاة بِه مِنَ النَّار، وهذا أَولى مِنْ قول مَنْ قال: إنَّما أُلزم عِتقَ باقيْه لتكميل حُريَّة العبد، فتتمَّ شهادتُه وحدودُه، وهو قولٌ لا دِلالة عليْه.