التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: أي الرقاب أفضل؟

          ░2▒ (بَابٌ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ)
          2518- ذكر فيْه حديث أَبِي ذَرٍّ _هو جُندُب بن جُنادة مات بالرَّبَذَة سنة اثنتين وثلاثين وصلَّى عليْه ابنُ مَسْعودٍ وقد جاء مِنَ العراق ثُمَّ قَدِم المدينة فمات بِها بعد بعشَرة أيَّامٍ_ سَأَلْتُ النَّبيَّ صلعم أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ بِاللهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ) قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَغلاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا) قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تُعِينُ صانِعًا، أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ) قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: (تَدَعُ النَّاس مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ).
          (أَغْلاهَا) ضبطَه الشَّيخ أبو الحسن بعينٍ مهملةٍ وضبطَه أبو ذرٍّ بمعجمةٍ، ومعناه أنَّ مَنِ اشتراها بكثير الثَّمن فإنَّما فعل ذلك لنَفاستِها عندَه، ومَنْ أعتق رقبةً نفيسةً عندَه وهو مغتبِطٌ بِها فلم يُعتقها إلَّا لوجه الله، وهذا الحديث في معنى قولِه تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وكان لابن عمر جاريةٌ يحبُّها فأعتقها لهذه الآية، ثُمَّ اتَّبعتْها نفسُه فأراد أن يتزوَّجَها فمنعَه بنوه، فكان بعد ذلك يقرِّب بنيْها مِنْ غيرِه لمكانِها مِنْ قلبِه.
          قَالَ المُهلَّب: وإنَّما قرنَ الجهادَ في سبيل الله بالإيمان / بِه، لأنَّهُ كان عليْهم أن يجاهدوا في سبيل الله حتَّى تكون كلمة الله هي العليا، وحتَّى يفشوَ الإسلام وينتشرَ فكان الجهادُ ذلك الوقتَ أفضلَ مِنْ كلِّ عملٍ.
          وقولُه: (تُعِينُ صانِعًا) أي فقيرًا.
          (أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ) عاملًا لا يستطيع عمل ما يحاولُه، والخَرَقُ لا يكون إلَّا في اليدين، وهو الَّذي لا يُحسنُ الصِّناعات، قال ابْنُ سِيْدَهْ: خَرِقَ الشَّيءَ جهلَهُ ولم يُحْسِن عملَه وهو أَخْرق، وفي «المثلَّث» لابن عُدَيسٍ الخُرْقُ جمع الأَخْرق مِنَ الرِّجال والخَرْقَاء مِنَ النِّساء وهما ضدُّ الصَّنَاع والصَّنع.
          وقولُه: (ضَايِعًا) أي فقيرًا هو ما فسَّره ابن بَطَّالٍ، وكذا ضبطَه غيرُه بالضَّاد المعجمة، وأنَّهُ رواية هشامٍ، وصوابُه (صَانِعًا) بالصَّاد المهملة وبالنُّون.
          وقال النَّوويُّ: الأكثر في الرِّواية بالمعجمة، وقال عِياضٌ: روايتنا في هذا مِنْ طريق هشامٍ بالمعجمة، وعن أبي بحرٍ بالمهملة، وهو صواب الكلام، لمقابلتِه بالأخرق وإن كان المعنى مِنْ جهة معونة الصَّانع أيضًا صحيحًا، لكنْ صحَّت الرِّواية عن هشامٍ بالمهملة، وقال ابن المَدِينيِّ: الزُّهْريُّ يقوله بالمهملة، ويرَون أنَّ هشامًا صحَّفَه بالمعجمة، والصَّواب قول الزُّهْريِّ.
          تنبيهاتٌ:
          أحدُها: إذا كانا مُسلِمَين فأفضلُهما أغلَاْهما ثمنًا كما سلف.
          قال أبو عبد الملك: إذا كان ذلك في ذوي الدِّين، واختُلف إذا كان النَّصرانيُّ أو اليهوديُّ أو غيرُهما أكثر ثمنًا مِنَ المسلم، فقال مالكٌ: عِتق الأغلى أفضلُ وإن كان غيرَ مسلمٍ، وقال أصبغ: عِتق المسلم أفضلُ وهو أبين كما قالَه ابن التِّينِ، لتقييدِهِ بالمسلم فيما سلف، وقياسًا عَلَى عِتق الواجب في قولِه تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92].
          ثانِيْها: هذا الحديثُ روَاْه مالكٌ في «موطَّئِه» عن هشامٍ، عن أبيْه عن عائشة مرفوعًا بِه، كما ساقَه البخاريُّ. وذكر بعضُهم أنَّهُ ممَّا يعدُّ عَلَى مالكٍ لأنَّ غير واحدٍ رواْه عن هشامٍ عن أبيْه عن أبي مُراوِحٍ، عن أبي ذرٍّ كما في البخاريِّ، وقال أبو عمر: زعم قومٌ أنَّ هذا الحديثَ كان أصلُه عند مالكٍ عن هشامٍ عن أبيْه مرسلًا، ورواْه ابنُ وهبٍ عنْه عن الزُّهْريِّ عن حَبيبٍ عن عُروة مرسَلًا، وقال الدَّارَقُطْنيُّ: المحفوظ عن مالكٍ الإرسالُ، وذكرَه الإسماعيليُّ في «صحيحِه» مِنْ حديث يحيى بن سعيدٍ، عن هشامٍ عن أبيْه قال: أخبرني ابن أبي مُراوِحٍ عن أبيْه أنَّ أبا ذرٍّ أخبرَه بِه، ولابن زَنْجَوَيهِ مِنْ حديث الأوزاعيِّ، عن يزيدَ بن أبي يزيد، عن أبيْه عنْه مقلوبًا، قلت: فإن كان ضعيفًا؟ قال: ((يَقُولُ المَعْرُوفَ بِلِسَانهِ)) قلتُ: فإنْ كان لسانهُ لا يبلِّغُ عنْه؟ قال: ((مَا تُرِيدُ أنْ تَدَعَ في صَاحِبِكَ خَيْرًا؟!)).
          ثالثُها: لو أراد أن يُعتق رقبةً واحدةً بألفٍ، وأمكن أن يشتريَ بالألف رقبتين مفضولتين فهما أفضلُ، بخلاف الأُضحيَّةِ، والفرقُ أنَّ المقصود بِها طِيبُ اللَّحم، وبالعِتق الخلاصُ مِنْ ربقة الرِّقِّ.