التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: هل يقرع في القسمة والاستهام فيه

          ░6▒ (بَابٌ: هَلْ يُقْرَعُ فِي القِسْمَةِ وَالِاسْتِهَامِ فِيهِ)
          2493- ذكر حديث عامرٍ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيْهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ / اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا).
          هذا الحديث ذكرَه البخاريُّ فيما سيأتي [خ¦2686] ((مَثَلُ المُدْهِنِ))، وقال فيْه: ((فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ...)) الحديث.
          وللتِّرمِذيِّ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْمُدَاهِنِ فِيْهَا)).
          ولا شكَّ أنَّ القُرْعَة سُنَّةٌ لكلِّ مَنْ أراد العدل في القِسمة بين الشُّركاء، والفقهاء متَّفِقُون عَلَى القول بِها، وخالفَهم بعضُ الكوفيِّين وَرُدَّت الأحاديث الواردة فيْها، وزعموا أنَّهُ لا معنى لَها وأنَّها تشبه الأزلام الَّتي نهى الله عنْها.
          وحكى ابن المُنْذِرِ عن أبي حنيفة أنه جَوَّزَها، وقال: القُرْعة في القياس لا تستقيم، ولكنَّا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسُّنَّة.
          وقال إسماعيلُ بن إسحاق: ليس في القُرْعة إبطالٌ لشيءٍ مِنَ الحقِّ كما زعم الكوفيُّون، وإذا وَجَبت القِسمة بين الشُّركاء في دارٍ أو أرضٍ، فعليْهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ثُمَّ يَسْتَهِموا، ويصير لكلِّ واحدٍ منْهم ما وقع لَه بالقُرْعة مجتمعًا ممَّا كان لَه في الملك مُشَاعًا، فيُضَمُّ في موضعٍ بعينِه ويكون ذلك بالعوض الَّذي صار لشريكِه لأنَّ مقادير ذلك قد عُدِّلَ بالقيمة، وإنَّما مَنَعت القُرْعةُ أن يختار كلُّ واحد منْهم موضعًا معيَّنًا، وهذا إنَّما يكون فيما يتشابه مِنَ الدُّور والأرَضينَ والعُروض وما تستوي رغبة النَّاس في كلِّ موضعٍ ممَّا يُقْتَرعُ عليْه.
          وفي قولِه _◙_: (كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ) جوازُ الاقتراع، لإقرارِه ◙ لَها، وأنَّهُ لم يذمَّ المُسْتَهِمين في السَّفينة، ولا أبطلَ فِعلَهم، بل رضيَه وضربَهُ مثلًا لِمَنْ نجَّتهُ نفسُه مِنَ الهَلَكة في دينِه، وقد ذكر البخاريُّ أحاديثَ كثيرةً في القُرْعة في آخر الشَّهادات وترجم لَه باب القُرْعَة في المُشْكلات، وذكر حديث عائشة في الإفك: كان إذا خرج أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ.
          قال البخاريُّ: وقال تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44] وقال: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141].
          وفي حديث أمِّ العلاء [خ¦1243] أنَّ عثمان بن مَظْعُون طار لَهم سهمُه في السُّكْنَى حين اقترعت الأنصار سُكْنى المهاجرين... الحديث.
          وفي حديث أبي هريرة [خ¦653] ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاس مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ)).
          وفي مسلمٍ مِنْ حديث عِمْران بن حُصَينٍ: ((أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ سِتَّةُ مَمْلُوكِينَ فَأَعْتَقَهُمْ، فَجَزَّأَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلعم فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً)).
          وفي «مستدرَك الحاكم» مِنْ حديث زيدِ بن أرقمَ: أُتِيَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِالْيَمَنِ في ثَلَاثةٍ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِي أصابَتْه الْقُرْعَةُ، فذكر ذلك لرسول الله صلعم فَضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.
          ولابن ماجَهْ عن أبي هريرة مرفوعًا: ((أَنَّ رَجُلَيْنِ، تَدَارَءا فِي بَيْعٍ وَلَيْسَ لوِاَحِدٍ مِنْهُما بَيِّنَةٌ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلعم أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ أَحَبَّا ذلك أم كَرِهَا)).
          ولابن أبي شَيبةَ عن صَفيَّةَ بنت عبد المطَّلب أنَّها أقرعت بين حمزةَ ورجلٍ في كفنٍ، وكتب عثمان إلى معاوية فأمرَه بالقُرْعَة، وممَّن أَقرعَ سعيدُ بن جُبيرٍ وابنُ الزُّبير وعمرُ بن عبد العزيز، وعن أمِّ سَلَمة أنَّهُ ◙ قال للرَّجُلَين: ((اسْتَهِمَا، ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ لِيَتَحَلَّلْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ)).
          وفي حديث الباب:
          تعذيب العامَّة بذنوب الخاصَّةِ. وفيْه استحقاقُ العقوبة بترك الأمرِ بالمعروف والنَّهيِ عنِ المنْكر. وفيْه تبيين العالم المسألةَ بضرب المثل الَّذي يُفْهَمُ للعوامِّ. وفيْه أنَّهُ يجب عَلَى الجار أن يصبر عَلَى شيءٍ مِنَ الأذى لجارِه، خوفًا ممَّا هو أشدُّ منْه.
          وأمَّا أحكام العُلوِّ والسُّفْل يكون بين رجلين، فيعتلُّ السُّفْلُ أو يريد صاحبُه هدمَه، فعن أَشْهب أنَّهُ قال: إذا أراد صاحب السُّفْلِ أن يَهدِمَ والعُلُوِّ أن يبنيَ عُلُوَّه فليس لصاحب السُّفْلِ هدمُه إلَّا مِنْ ضرورةٍ، يكون هدمُه لَه أرفقَ لصاحب العُلوِّ لئلَّا ينهدمَ بانهدامِه العُلوُّ، وليس لربِّ العُلوِّ أن يبنيَ عَلَى عُلوِّه شيئًا لم يكن قبل ذلك إلَّا الشَّيءَ الخفيفَ الَّذي لا يُضِرُّ بصاحب السُّفْلِ، ولو انكسَرت خَشبةٌ مِنْ سقفِ العُلوِّ لأدخلَ مكانَها خشبةً ما لم تكن أثقلَ منْها، ويخاف ضررُها عَلَى صاحب السُّفل.
          قال أشهب: وباب الدَّار عَلَى صاحب السُّفل، قال: ولو انهدم السُّفل أُجبِر صاحبُه عَلَى بنائِه، وليس عَلَى صاحب العُلوِّ بناءُ السُّفل، فإن أبى صاحبُ السُّفل مِنَ البناء قيل لَه: بِعْ ممَّن يبني.
          وعن مالكٍ فيما رواْه ابن القاسم في السُّفل لرجلٍ والعلوِّ لآخر فاعتلَّ السُّفْلُ، فإنَّ صلاحَه عَلَى ربِّ السُّفْلِ، وعليْه تعليقُ العُلوِّ حتَّى يُصْلِحَ سُفْلَه لأنَّ عليْه أن يحملَه إمَّا عَلَى بنيانٍ، وإمَّا عَلَى تعليقٍ، وكذلك لو كان العلوُّ عَلَى علوٍّ فتعليق العلوِّ الثَّاني عَلَى صاحب الأوسط في إصلاح الأوسط، وقد قيل: إنَّ تعليق العلوِّ عَلَى ربِّ العلوِّ حتَّى يبنيَ الأسفلُ، وحديث الباب حُجَّةٌ لقول مالكٍ وأشهبَ.
          وفيْه دليلٌ عَلَى أنَّ صاحبَ السُّفل ليس لَه أن يُحْدِثَ عَلَى صاحب العُلوِّ ما يُضِرُّ بِه، وأنَّهُ إن أحدث عليه ضررًا لزمَه إصلاحُه دون صاحب العُلوِّ، وأنَّ لصاحب العُلوِّ مَنْعَه مِنَ الضَّرر لقوله _◙_: (فـإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا) ولا يجوز الأخذُ إلَّا عَلَى يد الظَّالم، ومَنْ هو ممنوعٌ بإحداث ما لا يجوز لَه في السُّنَّةِ.
          فائدةٌ: (القَائِمِ) هو المستقيم، كما نبَّه عليْه ابن الجَوْزيِّ، والحدود ما منع الله تعالى مِنْ مجاوزتِها، وأصلُه لغةً المنع، ومنْه حدُّ الدَّار، وهو ما يَمنع غيرَها مِنَ الدُّخول فيْها، والحدَّاد الحاجب والبوَّاب، والمُدْهِن الغاشُّ، ذكرَه ابن فارسٍ، وقيل: هو التَّليين لِمَنْ لا ينبغي التَّليينُ لَهم، وقيل: هي كالمصانَعة، ومنْه قولُه: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9].
          وقال ابن بَطَّالٍ قُبيل الصُّلح: يعني المُدَاهِن فيْها المضيِّع لَها الَّذي لا يغيِّرُ المعاصي، ولا يعملها فهو مستحقٌّ العقوبةَ عَلَى سكوتِه ومداهَنتِه.
          وأمَّا (الوَاقِعِ) فهو القائم، ومنْه قولُه تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] أي قامت، قالَه ابن التِّينِ، وذكرَه في آخر الشَّهادات في باب القُرْعَة في المشكلات [خ¦2686]، وفيْه ((فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَهَا)). والفأس مؤنَّثةٌ مهموزةٌ، / ومعنى يَنْقُرُ يفتحُ، ذكرَه ابن التِّينِ هناك، قال: وفيْه إثباتُ القُرْعة في السَّفينة إذا تشاحُّوا، وذَلِكَ إذا نزلوا معًا، فأمَّا مَنْ سَبق منْهم فهو أحقُّ.