التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل

          ░5▒ (بَابُ تَقْوِيمِ الأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ)
          2491- ذكر فيْه حديثَ نافعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ في عَبْدٍ، أَوْ شِرْكًا _أَوْ قَالَ نَصِيبًا_ وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ العَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) قَالَ: لَا أَدْرِي قَوْلُهُ: عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ، قَوْلٌ مِنْ نَافِعٍ أَوْ فِي الحَدِيثِ عَنِ رَسُولِ الله صلعم.
          2492- وحديثَ عبد الله عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عَنْ قَتادة، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ، فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، قُوِّمَ المَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ).
          الشَّرح: الحديثان في مسلمٍ.
          وقولُه: (قَالَ) هو أيُّوب، وكذا صرَّح بِه الطَّرْقيُّ وهو أيُّوب بن أبي تَميمة، وكذا صرَّح بِه الإسماعيليُّ، قال: وفي رواية المعلَّى عن حمَّادٍ، عن أيُّوب، قالَه نَافِعٌ ولَه: ((لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ)) وفي لفظٍ: ((قُوِّمَ عَلِيهِ بَأَعْلَى القِيْمَةِ)) قال: وهذا ليس بمضبوطٍ.
          قال ابن عبد البرِّ: ورواه يحيى بن سعيدٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمرَ مرفوعًا: ((كُلِّفَ عِتْقَ مَا بَقِيَ مِنْهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَقَدْ جَازَ بِمَا صَنَعَ)).
          وقال الشَّافعيُّ: لا أحسبُ عالمًا بالحديث يشكُّ أنَّ مالكًا أحفظُ لحديث نافعٍ مِنْ أيُّوبَ، لأنَّهُ ألزمُ لَه مِنْ أيُّوبَ، ورواْه عن نافعٍ مِنْ غير شكٍّ، قال البَيهَقيُّ: وتابعَ مالكًا عُبيدُ الله بن عمرَ.
          وفي «الأفراد» للدَّارَقُطْنيِّ ((ورَقَّ مِنْهُ ما رقَّ)). وقال: تفرَّد بِه إسماعيلُ بن مرزوقٍ، عن يحيى بن أيُّوب، عن عُبيد الله بن عمر عن نافعٍ عنْه. وقال ابن حَزْمٍ: هي زيادةٌ موضوعةٌ.
          ولابن أبي شَيبة: ((إنْ كَانَ مُوْسِرًا ضَمِنَ، وإنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ)).
          وفي رواية الحجَّاج عن نافعٍ قال ابن عمر إثرَ الحديث: ((إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سَعَى العَبْدُ)).
          وللحجَّاج عن عمرو بن شُعيبٍ عن ابن المسيِّب قال: كان ثلاثون مِنَ الصَّحابة يضمِّنُون الرَّجلَ يُعْتِقُ العبدَ بينَه وبين الرَّجُل إنْ كان موسرًا.
          وقال الخطيب في حديث أبي هريرة: رواْه يزيدُ بن هارونَ عن سعيدٍ عن قَتادة عن النَّضر بن أنسٍ بلفظِ: ((مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ فِي ثَمَنِ رَقَبَتِهِ، غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ)) هكذا / رواْه يزيدُ قصَّر عن بعض الألفاظ الَّتي ذكرَها عبدُ الله بن بكرٍ عن ابن أبي عَرُوبة، وقد رواْه عن سعيدٍ بن المبارك، ويزيدُ بن زُرَيع، ومحمَّدُ بن بِشْرٍ العبديُّ، ويحيى القَطَّان، ومحمَّدُ بن أبي عديٍّ، فأحسنوا سِياقَه واستوفوا ألفاظَه.
          وكذلك رواْه أَبَان بنُ يزيدَ، وجريرُ بن حازمٍ، وموسى بنُ خلفٍ عن قَتادة.
          ورواْه شُعبةُ عن قَتادة فلم يذكر استسعاء العبد، وكذلك رواْه رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ومُعَاذ بن هشامٍ كِلَاْهما عن هشامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عن قَتادة إلَّا أنَّ معاذًا لم يذكر في إسنادِه النَّضْرَ، إنَّما قال عن قَتادة عن بَشيرٍ.
          ورواْه محمَّد بن كَثيرٍ العبديُّ عن همَّامٍ عن قَتادة مثلَ رواية رَوْحٍ عن هشامٍ عن قَتادة.
          وروى أبو عبد الرَّحمنِ عبدُ الله بنُ يزيد المُقْري، عن همَّامٍ معنى ذلك، إلاَّ أنَّهُ زاد فيْه ذِكر الاستسعاء، وجعلَه مِنْ قول قَتادة، ومَيَّزَه مِنْ كلام رَسُول الله صلعم، فقال: وكان قَتادة يقول: إنْ لم يكنْ لَه مالٌ استسعى.
          وللإسماعيليِّ أنَّ رجلًا أعتق شِقْصًا مِنْ مملوكِه، فغرَّمَهُ رَسُول الله صلعم بقيَّة ثمنِه، ثُمَّ قال: إنْ كان الاستسعاءُ عَلَى ما يذهب إليْه الكوفيُّ، فقد جمع بين حديثي ابن عمرَ وأبي هريرة، وهما متدافعان وجعلَهما صحِيحَين، وهذا بعيدٌ جدًّا، والقول في ذلك أحد قولين:
          أحدُهما قولُه: (اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ) ليس في الخبر المسند، وإنَّما هو قولٌ لقَتادة مُدْرَجٌ في الخبر عَلَى ما رواْه همَّامٌ عن قَتادة، وإمَّا أن يكون استسعاءُ العبدِ السيِّدُ يستسعيْهِ في قوَّتِه غير مشقوق عليْه أنَّ العِتق لم يكمل فيْه، فإنَّهُ لم يُبَيِّن في الخبر مَنْ يستسعيْه، وبَيَّن أنَّ العتق لم ينفذ فيْه فصار سيِّدُه هو الَّذي يستسعيْه، وللنَّسائيِّ عن ابن عمر وجابرٍ مرفوعًا: ((مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ فِيهِ شُرَكَاءُ، وَلَهُ وَفَاءٌ فَهُوَ حُرٌّ ويَضْمَنُ نَصِيبَ شُرَكَائِهِ بِقِيمَتهِ لِمَا أَسَاءَ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ)).
          ولأبي داود: عن مِلْقامِ بن التَّلِبِّ عن أبيْه أنَّ رجلًا أعتق نصيبًا مِنْ مملوك، فلم يضمِّنْهُ رَسُول الله صلعم.
          وروى عبد الرَّزَّاق، عن عمر بن حَوشبٍ، أخبرني إسماعيل بن أميَّةَ، عن أبيْه، عن جدِّه، قال: كان لَهم غلامٌ يُقال لَه: طَهْمانُ أو ذَكْوانُ، فأعتق جدُّهُ نصيبَهُ مِنَ العبد، فأتى رَسُول الله صلعم فسألَه فقال: ((تُعْتَقُ في عتقِكَ وتُرَقُّ في رِقِّكَ)).
          وروى أيضًا مرسلًا أنَّ بني سعيد بن العاص كان لَهم غلامٌ فأعتقوْه كلُّهم إلَّا رجلٌ واحد، فذهب العبد إلى رَسُول الله صلعم يستشفع بِه إلى الرَّجل، فوهب الرَّجلُ نصيبَه مِنْ رسول الله صلعم فأعتقَه.
          إذا تقرَّر ذلك فاختَلف العلماء في قِسْمة الرَّقيق عَلَى قولين:
          أحدُهما: أنَّهُ لا يجوز قسمتُه إلَّا بعد التَّقويم، وهو قول أبي حنيفة والشَّافعيِّ واحتجَّا بحديثي الباب، فأجاز تقويمَه في البيع للعِتق، وكذلك تقويمَه في القسمة.
          وثانيْهما: يجوز بغير تقويمٍ إذا تراضَوا عَلَى ذلك، وهو قول مالكٍ وأبي يوسف ومحمَّدٍ، واحتجُّوا بأنَّه ◙ قَسَم غنائم حُنَينٍ، وكان أكثرُها السَّبيَ والماشيةَ ولا فرق بين الرَّقيق وسائر الحيوانات، ولم يُذكر في شيء مِنَ السَّبيِ تقويمٌ.
          قال ابن بَطَّالٍ: وتناقضَ أبو حنيفة، فأجاز قسمَة الإبل والبقر والغنم بغير تقويمٍ، وزعم أنَّ الفرق بين الرَّقيق وسائر الحيوان أنَّ اختلاف الحيوان متفاوتٌ، وهذا ليس بشيءٍ لأنَّ القسمة بيعٌ مِنَ البيوع، وكلُّ بيعٍ صحيحٍ جائزٌ إذا انعقد عَلَى التَّراضي، ولا خلافَ بين العلماء أنَّ قسمة العُروض وسائرِ الأمتعة بعد التَّقويم جائزٌ، وإنَّما اختلفوا في قسمتِها بغير تقويمٍ، فأجازَه مالكٌ والكوفيُّون وأبو ثَورٍ إذا كان ذلك عَلَى سبيل التَّراضي، ومَنع مِنْ ذلك الشَّافعيُّ، وقال: لا يجوز قَسْم شيءٍ مِنْ ذلك إلَّا بعدَ التَّقويم قياسًا عَلَى حديث ابن عمرَ في تقويم العبد.
          تنبيهاتٌ:
          أحدُها قولُه: (شَقِيصًا) وفي روايةٍ: (شِقْصًا) مثل نصفٍ ونَصيفٍ، قال ابن دُرَيدٍ: هو العدل مِنْ كلِّ شيءٍ.
          وقال القزَّاز: لا يكون إلَّا القليلَ مِنَ الكثير، وقال في «الجامع»: الشِقْص النَّصيب والسَّهم، تقول: لي هذا في المال شِقْصٌ، أي نصيبٌ قليلٌ، والجمع أَشْقاصٌ وقد شقَّصتُ الشَّيءَ إذا جزَّأتُه. وقال ابْنُ سِيْدَهْ: وقيل: هو الحظُّ، وجمعُه
          شِقاصٌ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الشِّقْص والنَّصيب والسَّهم والحظُّ كلُّه واحدٌ.
          ثانيْها: خالف البَتِّيُّ وربيعةُ هذا الخبرَ فقالا: لا يُقَوَّم عليْه نصيبُ شريكِه، حكاْه ابن التِّينِ عنْهما قال: واختلفا هل يُمضي عتقَ نصيبِه، فأباْهُ ربيعة، لأنَّهُ لا يُضِرُّ بغيرِه، وقال عثمان البَتِّيُّ: يُعْتَقُ نصيبُه خاصَّةً، كأنَّهُ أشار إلى رواية عبد الرَّزَّاق السَّالفة، وعند أبي حنيفة شريكُه بالخيار بين أن يُعْتِقَ نصيبَه أو يستسعيَ العبدَ في قيمة نصيبِه ويَعْتِقَ، وبين أن يُقَوِّمَه عَلَى المعتِق، وسيأتي إيضاح ذلك في موضعِه.
          ثالثُها قولُه: (وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) هو بفتح العين مِنَ الأوَّل ويجوز فتحُها في الثَّاني وضمُّها، قالَه الدَّاوُدِيُّ، وتعقَّبَهُ ابن التِّينِ فقال: هذا لم يقلْهُ غيرُه ولا يُعرف عُتِقَ بالضَّمِّ لأنَّ الفعل لازمٌ غيرُ متعدٍّ، وإن كان سيبُويَه أجازَه عَلَى أنَّهُ أقام المصدرَ مُقام ما لم يسمَّ فاعلُه.
          وقولُه: (فَهُوَ عَتِيقٌ) بمعنى مُعتَقٍ.
          رابعُها: السِّعاية أن يُسْتخدم لمالكِه، ولهذا قال: (غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ) إذ لا يُحَمَّل مِنَ الخدمة فوق ما يلزمُه بحصَّةِ الرِّقِّ، وقال أبو عبد الله: (غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ): غيرَ مكاتَبٍ، وسيأتي لَه تتمَّةٌ في باب إذا أُعتق عبدٌ بين اثنين [خ¦2522]، وبالسِّعَاية قال الأوزاعيُّ، وقال أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن: يَعْتِقُ جميعُ العبد في الحال، وإن كان المعتِق مُعْسِرًا فلشريكِه أن يستسعيَ العبدَ وهو حرٌّ في قيمة نصيبِه منْه.
          وقال مالكٌ والشَّافعيُّ: يصيرُ نصيبُ الشَّريك رقيقًا، واحتجَّ لأبي حنيفة بهذا الحديث ولا دِلالة فيْه، لأنَّهُ قال: إنِ اختار السَّيِّدُ وليس فيْه ذكرُ خيارٍ، وقد أسلفْنا أنَّ الاستسعاءَ مِنْ قول قَتادة، وقال بعضُهم: لا يستعلي عليْه في الثَّمن.
          وقولُه: (قِيمَةَ عَدْلٍ) يدلُّ عَلَى أنَّهُ عبدٌ كلُّهُ، ولا يُقوَّمُ بعيب العِتْق قالَه أصبغُ وغيرُه، وقال ابن أبي لُبابة: يقوَّم عَلَى أنَّهُ مسَّهُ العِتق.
          وفيْه دليلٌ عَلَى أنَّ مَنْ أتلف عَرضًا عليْه قيمتُه، وسلَف.