التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث: بعث رسول الله بعثًا قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة

          ذكر فيه أربعة أحاديث:
          2483- أحدُها: حديث جَابِرٍ: (بَعَثَ النَّبيُّ صلعم بَعْثًا، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ...) إلى أن قال: (فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ الجَيْشِ، فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ...) الحديث بطولِه، وقد ساقَه مسلمٌ أيضًا.
          2484- ثانيْها: حديث سَلَمة: (خَفَّتْ أَزْوَادُ القَوْمِ، وَأَمْلَقُوا...) إلى أن قال: (نَادِ فِي النَّاس، فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَبُسِطَ لِذَلِكَ نِطْعٌ...) الحديث.
          2485- ثالثُها: حديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم العَصْرَ، فَنَنْحَرُ جَزُورًا، فَتُقْسَمُ عَشْرَ قِسَمٍ، فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ).
          2486- رابعُها: حديث أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ).
          الشَّرح:
          أمَّا حديثُ جابرٍ فكرَّره البخاريُّ كما ستعلمُه بعدُ، وقد أسلفنا أنَّ مسلمًا طرَّقَهُ، وأمَّا حديثُ سَلَمة فمِنْ أفرادِه، قال الإسماعيليُّ: أخبرني محمَّد بن العبَّاس حَدَّثَنا أحمدُ بن يونسَ حَدَّثَنا النَّضْر بن محمَّدٍ، حَدَّثَنا عكرمة بن عمَّارٍ عن إياس بن سَلَمة عن أبيْه بمعنى هذا الحديث، قال: وقال أحمد بن حنبلٍ: عكرمة عن إياسٍ صحيحٌ أو محفوظٌ أو كلامًا هذا نحوُه، ولم يرضَه في يحيى بن أبي كثيرٍ، قلت: قد ساقَه الطَّبريُّ مِنْ حديث أبي حُذيفة، حَدَّثَنا عكرمة بِه.
          وفيْه أنَّ الأزواد كَرْبض الشَّاة فحَشَونا جُرُبَنا منْه، ثُمَّ دعا بنُطْفةٍ مِنْ ماءٍ في إِدَاوةٍ، فأمر بِها فَصُبَّت في قَدَحٍ، فجعلنا نتطهَّرُ بِه حتَّى تطهَّرنَا جميعًا، وأخرجَه مسلمٌ مِنْ حديث أبي هريرة: ((كُنَّا مَعْ رَسُول الله صلعم في سَفَرٍ فنَفِدَت أزوادُ القَومِ حتَّى همَّ أَحَدُهُم بِنَحْر بَعْضِ حَمَائِلِهمْ، / فقال عمرُ:...)) الحديث.
          وأخرجَه البَيهَقيُّ في «دلائلِه» مِنْ حديث عبد الرَّحمنِ بن أبي عَمْرة الأنصاريِّ عن أبيْه، وفيْه فما بقي في الجيش وعاءٌ إلَّا مَلؤوْه وبقيَ مثلُه، فضحكَ حتَّى بَدَتْ نوَاجِذُهُ، وقال: ((أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ وأَنِّي رَسُول اللهِ، لا يَلْقَى اللهَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ بِهِمَا إلَّا حُجِبَ عَنِ النَّارِ)) وأخرجَه أيضًا مِنْ حديث أبي خُنَيسٍ الغِفاريِّ بلفظ: ((خَرَجْتُ مَعَ النَّبيِّ صلعم في غَزْوَةِ تِهَامةَ، حتَّى إذا كُنَّا بعُسْفَان جَهِدُوا...)) الحديث.
          وأمَّا حديثُ رافعٍ فسلفَ في الصَّلاة، وشيخ البخاريِّ (مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) هو الفِرْيَابيُّ.
          إذا تقرَّر ذلك فقَالَ المُهلَّب: هذِه القِسمةُ لا تصلح إلَّا فيما جُعِل للأكل خاصَّة لأنَّ طعام النِّهد وشبهِه لم يُوْضَع للآكلين عَلَى أنَّهم يأكلون بالسَّواء، وإنَّما يأكل كلُّ واحدٍ عَلَى قَدْر نِهْمَتِه، وقد يأكل الرَّجل أكثر مِنْ غيرِه، وهذِه القِسْمة موضوعةٌ للمعروف وعلى طريقةٍ بين الآكلين، أَلَا ترى جمع أبي عُبيدة بقيَّة أزواد النَّاس، ثُمَّ شَرَكهُم فيْها بأن قَسَم لكلِّ واحدٍ منْهم، وقد كان فيهم مَنْ لم تكن لَه بقيَّةُ طعامٍ، وقد أعطى لبعضهِم أقلَّ ممَّا كان بقيَ لَه ولآخرَ أكثر، وكذلك في حديث سَلَمة قَسَمَه بينَهم بالاحتثاء وهو غير متساوٍ، وهذا الفعل للشَّارع هو الَّذي امتثل أبو عبيدة في جمعِه للأزواد، وإنَّما يكون هذا عند شدَّةِ المجاعة، فللسُّلطان أن يأمر النَّاس بالمواساة، ويجبرَهم عَلَى ذلك ويُشْرِكَهم فيما بقي مِنْ أزوادِهم وإحياءً لأرماقِهم وإبقاءً لنفوسِهم، ويجوز أن يكون حُكمًا حكم بِه لِمَا شاهد مِنَ الضَّرورة وخوفُه مِنْ تَلفِ مَنْ لم يبقَ معَه زادٌ، فظَهر لَه المواساةُ أو عن رضًا منْهم، وكذلك قال بعض العلماء: إنَّ ذلك سُنَّةٌ.
          وفيْه أنَّ للإمام أن يواسيَ بين النَّاس في الأقوات في الحَضَر بثمنٍ وغيرِه، كما لَه فعلُ ذلك في السَّفر، وقد استدلَّ بعضُ العلماء بهذا الحديث، وقال: إنَّهُ أصلٌ في ألَّا يُقْطَع سارقٌ في مجاعةٍ لأنَّ المواساة واجبةٌ للمحتاجين، وسيأتي كثيرٌ مِنْ معاني هذا الحديث في الجهاد في باب حمل الزَّاد في الغزو [خ¦2982]، وخصَّه أبو عمر بسرقة المأكل، وفي حديث رافعٍ: قِسْمَة اللَّحمِ بالتَّجزيء بغير ميزانٍ، لأنَّهُ مِنْ باب المعروف وهو موضوع للأكل.
          وأمَّا قِسْمة الذَّهب والفضَّةِ مجازفةً فغير جائزٍ بالإجماع، لتحريم التَّفاضل في كلِّ واحدٍ منْهما، وإنَّما اختلفوا في قِسْمة الذَّهب مع الفضَّة مجازفةً أو بيع ذلك مجازفةً، فكرهَه مالكٌ ورآْه مِنْ بيع الغَرَر والقِمَار ولم يُجِزْه، وأمَّا الكوفيُّون والشَّافعيُّ وجماعةٌ مِنَ العلماء فأجازوا ذلك لأنَّ الأصلَ في الذَّهب بالفضَّة جوازُ التَّفاضل، فلا حرج في بيع الجِزَاف مِنْ ذلك وقسمتِه، وكذلك قسمة البُرِّ مجازفةً لا تجوز، كما لا يجوز بيع جِزَاف بُرٍّ ببُرٍّ ونحوِه، ممَّا حَرُمَ فيْه التَّفاضل، وما يجوز فيْه التَّفاضل فإنَّما الرِّبا فيه في النَّسيئة خاصَّةً.
          وأَمَلقَ الرَّجل افتقرَ ومنْه قولُه تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء:31] أي الفقر، ومثُله أرملوا، يُقال: أرملَ القوم في زادِهم، وأصلُه مِنَ الرَّمْل كأنَّهم لَصِقُوا بالرَّمل، كما قيل في المسكين: الَّذي لَصِقَ بالتُّراب.
          وفيه مَنْقبةٌ عظيمةٌ للأشعريِّين مِنْ إيثارِهم ومواساتِهم بشهادة الشَّارع، وأعظمُ ما شُرِّفوا بِه كونُه أضافَهم إليْه، وليس المقصودُ هنا بالقسمةِ المعروفةَ عند الفقهاء، وإنَّما المرادُ هنا إباحةُ بعضِهم بعضًا بموجودِه.
          تنبيهاتٌ:
          أحدُها: كان بَعْثُ أبي عُبيدة في رجبٍ سنةَ ثمانٍ للهجرة، وفيْه قوَّةُ إيمان هؤلاء المبعوثين، إذ لو ضَعُفَ _والعياذ بالله_ إيمانُهم لَمَا خرجوا وهم ثلاثُ مئةٍ وليس معَهم سوى جِرابِ تمرٍ.
          ثانيْها: ذَكر هنا: ((أنَّه لمَّا كُنَّا ببعضِ الطَّريق فَنِي الزَّاد))، وفي روايةٍ: ((فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةُ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً))، وفي أخرى: ((وَنَحْنُ نَحْمِلُ أَزْوَادَنَا عَلَى رِقَابِنَا))، وفي أخرى: ((زَوَّدَهُم جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ))، وفي أخرَى: ((فَجَمَعَ أَبُو عُبَيْدَةُ زَاْدَهُم))، ولمسلمٍ: ((يُعْطِينَا قَبْضَةً قَبْضَةً)).
          ووجهُ الجمع _كما قال عِيَاضٌ_ أن يكونَ ◙ زوَّدَهم الجِرابَ زائدًا عَلَى ما كان معَهم مِنَ الزَّاد مِنْ أموالِهم، ويُحْتمل أنَّهُ لم يكن في زادِهم تمرٌ غيرُ هذا الجِراب، وكان معَهم غيرُه مِنَ الزَّاد، وإعطاءُ أبي عبيدة تمرةً تمرةً كان في الحال الثَّاني بعد أن فَنِي زادُهم وبعد أن أعطاهم قبضةً قبضةً، ثُمَّ فَرغَ وفقدوا التَّمرة ووجدوا لفقدِها وقعًا، فلمَّا فقدوْها جمَع أبو عبيدة الأزواد.
          قلت: ويُحتَمل أنَّ الجِرَاب الَّذي زوَّدَهم الشَّارع كان عَلَى سبيل البركة، فلذا كانوا يأخذونَه تمرةً تمرةً.
          ثالثُها: الحوتُ يقع عَلَى الواحد والجميع، جمعُه حِيتانٌ وهي العِظَام منْها، وقال ابْنُ سِيْدَهْ: الحوت: السَّمك، اسم جنسٍ، وقيل: هو ما عَظُم منْه، والجمع أحواتٌ، وقال الفرَّاء: جمعُه حِوَتةٌ، وأحواتٌ في القليل، وإذا كَثُرت فهي الحِيتانُ.
          وقولُه: (ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً) كذا في أصل الدِّمْياطيِّ ثماني لكنْ مصلَّحًا، وقال ابن التِّينِ: إنَّهُ الصَّواب الَّذي في نسخةِ الأَصيليِّ، وجاء في روايةٍ: ((فَأَكَلْنَا مِنْهُ شَهْرًا)) وفي أخرى: ((نِصْفَ شَهْرٍ)).
          قال عِياضٌ: أكلوا منْه نصفَ شهرٍ طريًّا وبقيَّتَهُ قَدِيدًا، وقال النَّوويُّ: مَنْ قال شهرًا هو الأصل ومعَه زيادة علمٍ، ومَنْ روى دونَه لم يَنْفِ الزِّيادةَ، ولو نفاْها قُدِّمَ المُثْبِتَ، والمشهور عند الأصوليِّين أنَّ مفهوم العدد لا حُكمَ لَه، ولا يَلزم منْه نفيُ الزِّيادة لو لم يعارضْه إثباتُها، كيف وقد عارضَه فوجب قَبولُها؟
          رابعُها: قد أسلفنا الكلامَ عَلَى المجازفة، وفي الحديث الأوَّل والَّذي بعدَه الشَّرِكة، وزعم الدَّاوُدِيُّ أنَّها ليست مِنْ هذا الباب، لأنَّهم لم يريدوا المبايعة ولا البدلَ، إنَّما تفضَّل بعضُهم عَلَى بعضٍ، أو أخذ الإمامُ مِنْ أحدِهم للآخر، واعتَرض ابنُ التِّينِ فقال: البخاريُّ إنَّما أراد أنَّ حقوقَهم تساوتْ فيْه بعد جمعِه، فيسمُّونَه جِزَافًا ولم يُرِد أصل أخذِه كما تأوَّل الدَّاوُدِيُّ، ولكَنْ مجازفةُ الذَّهب والفضَّة لم يأتِ في الباب ما يدلُّ عليْها، فإن كانت مصكوكةً فلم يُجِزْها مالكٌ، واخْتُلِف هل هو عَلَى الكراهة أو التَّحريم؟ وأجازَها غيرُه مِنْ أصحابِه، وإن كانت غيرَ مصكوكةٍ جاز بيعُ بعضِها ببعضٍ جِزافًا، ذهبًا بفضَّةٍ نقدًا.
          خامسُها: فيْه فَضْل أبي عُبيدة، وقد سمَّاْه الشَّارعُ أمينَ هذِه الأمَّةِ.
          وفيْه النَّظرُ في القوم والتَّدبيرُ فيْه، وفَضْلُ الصَّحابة عَلَى ما كان ينالُهم مِنَ البؤس، وقد استجابوا لله والرسول مِنْ بعدما أصابَهم القَرْح.
          وفيْه رضاْهُم بالقضاء وطاعتُهم للأمير.
          وقوله: (تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ) هو ممَّا ترجم عليْه القِران في التَّمر. /
          وقولُه: (ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى البَحْرِ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: موضعٌ، والظَّاهر أنَّهُ المعهود.
          و(الظَّرِبِ) _بفتح الظَّاء وكسر الرَّاء_ الجبل الصَّغير، قال الفرَّاء: هو بسكون الرَّاء، وهو الجبلُ المنبسط ليس بالعالي.
          وقولُه: فـ(أَمَرَ بِضِلَعَيْنِ) ضُبط ذلك بكسر الضَّاد وفتح اللَّام، وقال في «أدب الكاتب»: ضَلْعٌ وضِلَعٌ، وقال الهَرَويُّ: هُما لغتان، والضِّلَعُ مؤنَّثةٌ.
          وفي حديث سَلَمة ما كان عُمَر عليْه مِنَ التَّوفيق والتَّأييد، فَيُذَكِّرُ الشَّارع، والتَّعريضُ بالطَّلب.
          وفيْه ما للإمام أنْ يأخذَ مِنْ أموال بعضٍ عند الضَّرورة إلى ذلك. وفيْه مراعاةُ أحوال الجَّيش. وفيْه جوازُ الشَّركة في الطَّعام وخَلْط الأزواد في السَّفر إذا كان ذلك أرفقَ بِهم. و(النِّطَعِ) بكسر النُّون وفتح الطَّاء عَلَى الأفصح، ومعنى (بَرَّكَ) دعا فيْه بالبركة.
          وقولُه: (احْتَثَى النَّاس) أي أخذوا ما بأيديْهم. وفي حديث رافعٍ الشَّركة في الإبل. وفيْه جمعُ حظوظ رجال في المقسم، ومالكٌ لا يقول بذلك. وفيْه نحرُ إبل المغنم. وفيْه أنَّهُ لا يُتخيَّر منْها إلَّا بعد القِسمة، ومالكٌ يجيز قبلَها.
          وقولُه فيْه: (فَنَأْكُلُ لَحْمًا نَضِيجًا قَبْلَ الغُرُوبِ) قد يُحتَجُّ بِه عَلَى أبي حنيفة أنَّ أوَّل وقت العصر بعد القامتين. والنَّضِيجُ المطبوخ. وفيْه جوازُ هِبَة المجهول، ومشهورُ مذهب مالكٍ جوازُه.