التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من نذر المشي إلى الكعبة

          ░27▒ بَابُ: مَنْ نَذَرَ المَشْيَ إِلَى الكَعْبَةِ.
          1865- 1866- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا الفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيْلِ، أخبرني ثَابِتٌ، عَنْ أنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، فَقَالَ: (مَا بَالُ هَذَا؟)، قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ)، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ.
          ثمَّ ساق حديثَ أبِي الخَيْرِ _وهو مَرْثِدُ بنُ عبدِ الله اليَزَنيُّ_ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ، وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا النَّبِيَّ _صلعم_ فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ _◙_: (لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ)، قَالَ: وَكَانَ أَبُو الخَيْرِ لَا يُفَارِقُ عُقْبَةَ، ثمَّ ذكرَه بسندٍ آخر.
          الشَّرح: هذا الحديث يأتي في الأيمان والنُّذور أيضًا، و(الفَزَارِيُّ) هذا هو أبو إسحاقَ أو مروانُ بنُ معاويةَ، قاله ابنُ حزمٍ، وكلاهما ثقةٌ إمامٌ، وأمَّا خلفٌ وأبو نُعيمٍ والطَّرْقيُّ في آخرين فذكروا أنَّه مروانُ.
          وأخرجه مسلمٌ في النُّذور عَنِ ابنِ أبي عمرَ، حدَّثنا مروانُ، حدَّثنا حُميدٌ فذكره، وأخرجه أبو داودَ والتِّرمِذيُّ والنَّسائيُّ أيضًا، وللتِّرمذيِّ أيضًا مِنْ حديث عِمرانَ القطَّانِ عَنْ حُميدٍ عَنْ أنسٍ محسَّنًا: ((نَذَرَتِ امْرَأَةٌ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ تَعَالَى، فَسُئِلَ نَبِيُّ اللهِ _صلعم_ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهَا، مُرُوهَا فَلْتَرْكَبْ)).
          والرَّجل المهادَى هو أبو إسرائيلَ كمَا قال الخطيب، وقال النَّوويُّ: اسمه قيسٌ، وقيل قيصرُ، قلتُ: لم أرَ في الصَّحابة مَنِ اسمه قيصرُ، وقيل: قيسيرٌ، وحديث عقبةَ أخرجه مسلمٌ أيضًا وقال: ((أَنْ تَحُجَّ حَافِيَةً)).
          ولَمَّا أسنده الإسماعيليُّ قال: حديث هشامِ بنِ يوسفَ عنِ ابنِ جُرَيجٍ عنْ سعيدِ بنِ أبي أيُّوبَ _يعني طريق البخاريِّ_ هذا الحديث ممَّا لا يُعرف ويُخشى أنْ يكون غلطًا، وتابع سعيدَ بنَ أبي أيُّوبَ يحيى بنُ أيُّوبَ، وليس مِنْ شرط أبي عبد الله في هذا الكتاب، وأبو عاصمٍ ورَوْحٌ تابعَا هشامًا وهما ثقتان.
          يعني: وقد اتَّفقا على خلاف سعيدٍ، قلتُ: ورواه ابنُ عبَّاسٍ عنْ عُقبةَ أخرجه أحمدُ بزيادةِ: ((وَشَكَا إِلَيْهِ ضَعْفَهَا)) وفيه: ((فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ بَدَنَةً))، وأخرجه أبو داودَ أيضًا مِنْ حديث ابنِ عبَّاسٍ أنَّ أختَ عُقبةَ وفيه: ((فَإِنَّهَا لَا تُطِيْقُ ذَلِكَ)) وفيه: ((وَلْتُهْدِ هَدْيًا)) ورواه عبدُ الله بنُ مالكٍ اليَحْصُبِيُّ عن عُقبةَ.
          أخرجه التِّرمِذيُّ محسَّنًا بلفظِ: ((نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ، فقال: مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)) وذكره أبو داودَ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ مِنْ حديث عبد الله بنِ مالكٍ مِنْ غير ذكر نسبه، وزعم ابنُ عساكرَ أنَّه عبدُ الله بنُ مالكٍ أبو تميمٍ الجَيْشانيُّ، وابنُ أبي حاتمٍ وغيره يُفرِّقون بين هذين الرَّجلين، وأمَّا ابنُ يونسَ فجعلهما واحدًا، وذكر بعضُهم أنَّ قول ابنِ يونسَ أولى بالصَّواب.
          ورواه أبو موسى المِدينيُّ في «الصَّحابة» مِنْ حديث يزيدَ بنِ هارونَ، عنْ يحيى بنِ سعيدٍ، عنْ عبيدِ الله بنِ زَحْرٍ، عنْ أبي سعيدٍ الرُّعَينيِّ، عنْ عبدِ الله بنِ مالكٍ الجُهَنيِّ أنَّ عقبةَ بنَ مالكٍ أخبره: ((أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَى البَيْتِ حَافِيَةً غَيْرَ مُخْتَمِرَةٍ)) فذكره، وللطَّحاويِّ: ((نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ حَافِيَةً نَاشِرَةً شَعْرَهَا)).
          وأختُ عقبةَ اسمها أمُّ حِبَّانَ _بكسر الحاء المهملة ثمَّ باءٍ موحَّدةٍ_ وذُكر أنَّها مِنَ المبايِعات.
          إذا تقرَّر ذَلِكَ، فأهل الظَّاهر أخذوا بحديث أنسٍ وعُقبةَ بنِ عامرٍ وقالوا: مَنْ عجز عنِ المشي فلا هديَ عليه اتِّباعًا للسُّنَّة في ذَلِكَ، قالوا: ولا يثبت شيءٌ في الذِّمَّة إلَّا بيقينٍ، وليس المشي ممَّا يوجبُه نذرٌ لأنَّ فيه تعبَ الأبدان، وليس الماشي في حال مشيته في حُرمة إحرامٍ فلم يجبْ عليه المشيُ ولا بدلٌ منه.
          قال ابنُ حزمٍ: مَنْ نذر أنْ يمشيَ إلى مكَّة أو إلى مكانٍ ذَكَره مِنَ الحرم على سبيل التَّقرُّب أو الشُّكر لله _تعالى_ لا على سبيل اليمين، ففرضٌ عليه المشي إلى حيث نذر للصَّلاة هنالك أو الطَّواف بالبيت فقط، ولا يلزمه أنْ يحجَّ ولا أنْ يعتمرَ إلَّا أنْ ينذر ذَلِكَ وإلَّا فلا، فإنْ شقَّ عليه المشي إلى حيث نذر مِنْ ذَلِكَ فليركب ولا شيء عليه، فإنْ ركب في الطَّريق كلِّه بغير مشقَّةٍ في طريقه فعليه هديٌ، ولا يعوِّضُ مِن ذَلِكَ صيامًا ولا طعامًا، فإنْ نذر أنْ يحجَّ ماشيًا فليمشِ مِنَ الميقات حَتَّى يُتمَّ حجَّه.
          قلتُ: قد أسلفنا ذِكرَ الصِّيام، وأمَّا سائرُ الفقهاء فإنَّ لهم في هذه المسألة ثلاثةَ أقوالٍ غير هذا:
          أوَّلها: رُوِيَ عنْ عليٍّ وابنِ عمرَ: أنَّ مَنْ نذر المشي إلى بيت الله فعجز أنَّه يمشي ما استطاع فإذا عجز ركب وأهدى شاةً، وهو قول عطاءٍ والحسنِ، / وبه قال أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ، إلَّا أنَّ أبا حنيفةَ وأصحابَه قالوا: وكذلك إنْ ركب وهو غير عاجزٍ، ويُكفِّر عنْ يمينه لحِنْثه، وقال الشَّافعيُّ: الهدي في هذِه احتياطٌ مِنْ قِبَلِ أنَّه مَنْ لمْ يطقْ شيئًا سقط عنه، وحجَّتهم ما رواه همَّامٌ، عنْ قَتادةَ، عنْ عِكْرمةَ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ عنْ عُقبةَ بنِ عامرٍ: ((أَنَّ أُخْتَهُ نَذَرَت المَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ فَسَأَلَ النَّبِيُّ _صلعم_ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ نَذْرِ أُخْتِكَ فَلْتَرْكَبْ وَلْتُهْدِ)).
          ثانيها: يعود فيحجُّ مرَّةً أخرى ثمَّ يمشي ما ركب ولا هدي عليه، هذا قول ابنِ عمرَ، ذكره مالكٌ في «الموطَّأ» وَرُوِيَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ وابنِ الزُّبَير والنَّخَعيِّ وسعيدِ بنِ جبيرٍ.
          ثالثها: يعود فيمشي ما ركب وعليه الهدي، رُوِيَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ أيضًا، وَرُوِيَ عنِ النَّخَعيِّ وابنِ المسيِّب، وهو قول مالكٍ، جَمَع عليه الأمرين: المشيَ والهديَ احتياطًا لموضع تفريقه بالمشي الَّذي كان لزمه في سفرٍ واحدٍ، فجعله في سفرين قياسًا على التَّمتُّع والقِران.
          وقال ابنُ التِّين: مذهب مالكٍ إذا عجز عنْ مشي البعض فإنْ ركب الكثيرَ فعنه: يبتدئ المشيَ كلَّه، وعنه: يرجع فيمشي ما ركب، وإنْ ركب يومًا وليلةً رجع فمشى ما ركب، وإنْ ركب أقلَّ مِنْ ذلك فليس عليه الرُّجوع ويجزئه الهدي، ويمكن أنْ يُتأوَّلَ لحديث أنسٍ وعُقبةَ بوجهٍ موافقٍ لفقهاءِ الأمصار حَتَّى لا ينفرد أهل الظَّاهر بالقول بهما، وذلك أنَّ في نصِّهما ما يُبيِّن المعنى فيهما وهو أنَّه _◙_ رأى شيخًا يهادَى بين ابنيه فقال: (إِنَّ اللهّ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيْبِ هَذَا نَفْسَهُ) فبان واتَّضح أنَّه كان غيرَ قادر على المشي، وممَّنْ لا يُرجى له القدرة عليه، ومَنْ كان غير قادرٍ على شيءٍ سقط عنه.
          والعلماء متَّفقون أنَّ الوفاء بالنَّذر إنَّما يكون فيما هو لله _تعالى_ طاعةٌ والوفاءُ به بِرٌّ، ولا طَاعَةَ ولا برَّ في تعذيب أحدٍ نفسَه، فكان هذا النَّاذر قد نذر على نفسه ما لا يقدر على الوفاء به، وكان في معنى أبي إسرائيلَ الَّذي نذر ليقومَنَّ في الشَّمس ولا يستظلُّ ويصوم ذَلِكَ اليوم، فأمره رسول الله _صلعم_: أنْ يجلس ويستظلَّ ويصوم، ولم يأمره بكفَّارةٍ.
          وقد رُوِيَ في حديث عُقبةَ بنِ عامرٍ ما يدلُّ أنَّ أخته كانت غير قادرةٍ على المشي فلذلك لم يأمرها _◙_ بالهدي، روى الطَّبريُّ مِنْ حديث محمَّدِ بنِ أبي يحيى الأسلميِّ: حَدَّثَني إسحاقُ بنُ سالمٍ، عنْ عقبةَ بنِ عامرٍ أنَّ أخته نذرت أنْ تمشي إلى الكعبة وهي امرأةٌ ثقيلةٌ والمشيُ يشقُّ عليها، فذكر ذَلِكَ عقبةُ لرسول الله _صلعم_ فقال: ((إِنَّ الله لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ)).
          فصحَّ التَّأويلُ أنَّها نذرت وهي في حال مَنْ لا تُرجى له القدرة على الوفاء بما نذرت كأبي إسرائيلَ، والعلماء مُجمعون على سقوط المشي عمَّن لا يقدر عليه فسقوط الهدي أحرى، وإنْ كان مالكٌ يستحبُّ الهدي لِمَن عجز عنِ المشي.
          قال الطَّحاويُّ: ونظرْنا في قول مَنْ قال: ليس الماشي في حُرمة إحرامٍ، فرأينا الحجَّ فيه الطَّواف والوقوف بعرفةَ وجمْعٍ، وكان الطَّواف منه ما يفعله الرَّجل في حال إحرامِه، وهو طواف الزِّيارة، ومنه ما يفعله بعد أنْ يحلَّ مِنْ إحرامهِ وهو طواف الصَّدْرِ، فكان ذَلِكَ مِنْ أسباب الحجِّ قد أُرايد أنْ يفعله الرَّجل ماشيًا، وكان إنْ فعله راكبًا مقصِّرًا، وجُعِل عليه الدَّمُ هذا إذا فعله مِنْ غير علَّةٍ فإنْ فعله مِنْ علَّةٍ فالنَّاس مختلفون في ذَلِكَ، قال أبو حنيفةَ وصاحباه: لا شيء عليه، وقال غيرُهم: عليه دمٌ، وهو النَّظرُ عندنا لأنَّ العلل إنَّما تُسقط الآثامَ في انتهاك الحرمات ولا تُسقط الكفَّارات كحلق الرَّأس في الإحرام، إنْ حلقه مِنْ غير عذرٍ عليه الإثمُ والكفَّارة، فإنِ اضطرَّ إلى حلقه فعليه الكفَّارة ولا إثم عليه، فكذلك المشيُ الَّذي قبل الإحرام، لَمَّا كان مِنْ أسباب الحجِّ كان حكمه حكم المشي الواجب في الإحرام، يجب على تاركه الدَّم.
          وفيه: وجوب الوفاء بالنَّذر، وأنَّ مَنْ نذر ما لا يستطيع لمْ يلزمه، وكذا ما يُجهِدُه، فإن حلف ولمْ ينذر ذلك وحلف بالمشي إلى مكَّة لزمه المشيُ عند سائر أصحاب مالكٍ، وما يُعزى لابنِ القاسم أنَّه أفتى في النَّذر بكفَّارة يمينٍ لا يصحُّ، وقال الشَّافعيُّ: يلزمه المشي بالنَّذر، ومَنْ حلف به وحنث فعليه كفَّارة يمينٍ، وبه قال سعيدُ بنُ المسيِّب والقاسمُ.
          وفيه قَبولُ خبرِ الواحد.