التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تزويج المحرم

          ░12▒ بَابُ: تَزْوِيجِ المُحْرِمِ.
          1837- ذَكر فيه حديثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ، زاد البخاريُّ في موضعٍ آخر: ((وَهُوَ فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلاَلٌ، وَمَاتَتْ بِسَرِفَ))، وقال فيه أيضًا: ((زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَأَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ _صلعم_ مَيْمُونَةَ فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ)).
          وهذا التَّعليق أسنده النَّسائيُّ، عن هنَّادٍ، عنْ يحيى بنِ زكريَّا بنِ أبي زائدةَ أخبرنا ابنِ إسحاقَ فذكره، وأسْنده الحاكم في «إكليله» مِنْ حديث يونسَ، عنِ ابنِ إسحاقَ، وأخرجه النَّسائيُّ مِنْ حديث عمرِو بنِ عليٍّ، عنْ أبي عاصمٍ، عنْ عثمانَ بنِ الأسودِ، عنِ ابنِ أبي مُليكةَ، عنْ عائشةَ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، قال عمرو: قُلْتُ لِأَبِي عَاصِمٍ: أَنْتَ أَمْلَيْتَ هَذَا عَلَيْنَا مِنَ الرُّقْعَةِ لَيْسَ فِيهِ عَائِشَةُ، قَالَ: دَعْ عَائِشَةَ حَتَّى أَنْظُرَ فِيهِ)).
          ورواه الطَّحاويُّ مِنْ حديث أبي الضُّحى، عنْ مسروقٍ، عنْ عائشةَ: ((تَزَوَّجَ النَّبِيُّ _صلعم_ بَعْضَ نِسَائِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ)) ثمَّ قال: نقَلَةُ هذا الحديث كلُّهم ثقاتٌ يُحْتَجُّ برواياتهم، وهو ردٌّ على قول ابنِ عبدِ البرِّ: ما أعلم أحدًا مِنَ الصَّحابة روى أنَّه تزوَّجها وهو محرمٌ إلَّا ابنَ عبَّاسٍ.
          ولابنِ أبي شيبةَ عنْ عيسى بنِ يونسَ، عنِ ابنِ جُريجٍ، عنْ عطاءٍ قال: ((تَزَوَّجَ النَّبِيُّ _صلعم_ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ)) وعنْ أبي الضُّحى عنْ مسروقٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ)). وللدَّارقُطنيِّ مِنْ حديث أبي صالحٍ عنْ أبي هريرةَ: ((تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ)).
          واختلف العلماء في تزويج رسول الله _صلعم_ ميمونةَ، فروى ابنُ عبَّاسٍ: أنَّه _صلعم_ تزوَّجها وهو محرِمٌ، وروى: ((أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ))، أخرجاه مِنْ حديث ميمونةَ.
          قال يزيدُ بنُ الأصمِّ: وكانتْ خالتي وخالةَ ابنِ عبَّاسٍ، ولأحمدَ: ((تَزَوَّجَنِي حَلَالًا وَبَنَى بِي حَلَالًا))، واستغربه التِّرمذيُّ، وحسَّن حديثَ أبي رافعٍ مثله بزيادةٍ: ((وَكُنْتُ السَّفِيْرَ بَيْنَهُمَا))، والرِّوايات في ذَلِكَ متواترةٌ عنْ أبي رافعٍ مولى رسول الله _صلعم_ وعنْ سليمانَ بنِ يسارٍ وهو مولاها، وعنْ يزيدَ بنِ الأصمِّ وهو ابنُ أختها، وجمهورُ علماء المدينة يقولون: لمْ يَنكحْ رسول الله _صلعم_ ميمونةَ إلَّا وهو حلالٌ.
          روى مالكٌ، عنْ ربيعةَ، عنْ سليمانَ بنِ يسارٍ ((أنَّ رسول الله _صلعم_ بعث أبا رافعٍ مولاه ورجلًا مِنَ الأنصار فزوَّجاه ميمونةَ بنتَ الحارث، ورسول الله _صلعم_ بالمدينة قبل أنْ يَخرج)).
          واختلف الفقهاء في ذَلِكَ مِنْ أجل اختلاف الآثار، فذهب أهلُ المدينة إلى أنَّ المحرِم لا يَنكح ولا يُنكِح غيرَه، فإنْ فعل فالنِّكاح باطلٌ، وَرُوِيَ ذلك عنْ عمرَ وعثمانَ وابنِه أبانٍ وعليٍّ وزيدِ بنِ ثابتٍ وابنِ عمرَ، وبه قال سعيدُ بنُ المسيِّب وسالمٌ وسليمانُ بنُ يسارٍ ومالكٌ واللَّيثُ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ، وفي أفراد مسلمٍ مِنْ حديث عثمانَ بنِ عفَّانَ قال: قال رسول الله _صلعم_: ((لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ، وَلَا يَخْطُبُ))، وأبعدَ مَنْ قال في الاعتذار عنِ البخاريِّ كونه لم يخرِّجه إتيان نبيهٍ وأبَانٍ بعن ولم يصرِّحا بالتَّحديث، ففي مسلمٍ التَّصريحُ بإخبار أبَانٍ عن عثمانَ، نعم قال أحمدُ: لم يسمع مِنْه. /
          وذهب الثَّوريُّ والكوفيُّون: إلى أنَّه يجوز للمحرم أنْ يَنكح ويُنكِح غيرَه، وهو قول ابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ وأنسٍ، ذكره الطَّحاويُّ، وَرُوِيَ عنِ القاسمِ بنِ محمَّدٍ والنَّخعيِّ، وَرُوِيَ عنْ مُعاذٍ، وحجَّتهم حديث ابنِ عبَّاسٍ وقالوا: الفُرُوج لا تحلُّ إلَّا بنكاحٍ أو شراءٍ، والأُمَّة مجمعةٌ على أنَّ المحرِم يملك ذَلِكَ بشراءٍ وهبةٍ وميراثٍ في حال إحرامِه، ولا يبطل ملكُه، فكذلك إذا مَلكه بنكاحٍ لا يبطل ملكُه قياسًا على الشِّراء قاله الطَّبريُّ.
          قال: والصَّواب عندنا أنَّ نكاح المحرِم فاسدٌ يجب فسخُه لصحَّة الخبرِ عنْ عثمانَ عنِ النَّبيِّ _صلعم_ بالنَّهي عن ذَلِكَ، وخبرُ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّه _◙_ تزوَّجها وهو محرمٌ، فقد عارضهم فيه غيرهم مِنَ الصَّحابة، وقالوا: ((تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ)) فلمْ يكن قولُ مَنْ قال تزوَّجها وهو محرمٌ أَولى بالقَبول مِنَ الآخر.
          وقد قال سعيدُ بنُ المسيِّب: وَهَمَ ابنُ عبَّاسٍ وإنْ كانت خالتَه، ما تزوَّجها إلَّا بعدمَا أحلَّ.
          قال ابنُ عُلَيَّة: حَدَّثَنَا أيُّوبُ قال: أُنبئتُ أنَّ الاختلاف إنَّما كان في نكاح رسول الله _صلعم_ ميمونةَ، أنَّ رسول الله _صلعم_ بعث العبَّاس بين يديه ليُنكِحها إيَّاه فأنكحه، قال بعضُهم أنكَحَها قبل أنْ يحرِم، وقال بعضهم: بعدما أحرَمَ، وقد ثبت أنَّ عمر وعليًّا وزيدًا فرَّقوا بين محرِمٍ نَكَحَ وبين امرأتِه، ولا يكون هذا إلَّا عن صحَّةٍ ويقينٍ.
          وأمَّا قياسُهم النِّكاحَ على الشِّراء فإنَّ الَّذين أفسدوا نكاح المحرِم لمْ يُفسدوه مِنْ جهة القياس والاستنباط فتلزمُهم المقاييس والأشباه وإنَّما أفسدوه مِنْ جهة الخبر الوارد بالنَّهي عنه، فالَّذي ينبغي لمخالفيهم أنْ يناظروهم مِنْ جهة الخبر، فإنْ ثبت لزمهم التَّسليم له، وإنْ بطل صاروا حينئذٍ إلى استخراج الحُكمِ فيه مِنَ الأمثال والأشباه، فأمَّا والخبرُ ثابتٌ بالنَّهي عنْ ذلك فلا وجهَ للمقايَسة فيه.
          وفي «طبقات ابنِ سعدٍ» عن ميمونِ بنِ مِهْرانَ قال: كنتُ جالسًا عند عطاءٍ فسأله رجلٌ: هل يتزوَّج المحرِم؟ فقال عطاءٌ: ما حرَّم اللهُ النِّكاح منذ أحلَّه.
          قال ميمونٌ: فذكرتُ له حديث يزيدَ بنِ الأصمِّ: تزوَّجها وهو حلالٌ _يعني ميمونةَ_ فقال عطاءٌ: ما كنَّا نأخذ هذا إلَّا عن ميمونةَ وكنَّا نسمع أنَّه تزوَّجها وهو محرِمٌ، وعنِ الشَّعبيِّ: أنَّه _◙_ تزوَّجها وهو محرِمٌ، وعن مجاهدٍ وأبي يزيدَ المدينيِّ: أنَّه _◙_ تزوَّجها وهو محرِمٌ.
          قال ابنُ أبي شيبةَ: وممَّنْ كان لا يرى بأسًا أنْ يتزوَّج المحرِمُ: إبراهيمُ النَّخَعيِّ والقاسمُ بنِ محمَّدٍ والحكمُ وحمَّادٌ وعطاءٌ وعبدُ الله بنُ عبَّاسٍ وإبراهيمُ عنِ ابنِ مسعودٍ مثلُهم، وذكر الطَّحاويُّ عن عبدِ الله بنِ محمَّدِ بنِ أبي بكرٍ قال: سألت أنسَ بنَ مالكٍ عنْ نكاح المحرِم فقال: ما به بأسٌ، هل هو إلَّا كالبيع؟
          وذكره ابنُ حزمٍ أيضًا عن معاذِ بنِ جبلٍ وعِكرمةَ وسفيانَ _وهو قول أبي حنيفةَ_ قال: وصحَّ عن عمرَ بنِ الخطَّاب وزيد بنِ ثابتٍ فسخُ نكاح المحرِم إذا نكح.
          روى مالكٌ في «الموطَّأ» عن أبي غَطَفانَ بنِ طَريفٍ أنَّ أباه تزوَّج امرأةً وهو محرِمٌ فردَّ عمرُ نكاحَه، قال: وصحَّ عنِ ابنِ عمَر مِنْ طريق حمَّاد بنِ سلمةَ عنْ أيُّوبَ عنْ نافعٍ عنه أنَّه قال: المحرِم لا يَنكح ولا يُنكِح، ولا يخطُب على نفسه ولا على مَنْ سواه، وَرُوِّينا عنْ عليٍّ: لا يجوز نكاح المحرِم، وإنْ نكح نزعنا مِنْه امرأتَه، وهو قول ابنِ شهابٍ وابنِ المسيِّب، وبه يقول مالكٌ والشَّافعيُّ وأبو سليمانَ وأصحابُهم محتجِّين بحديث ميمونةَ وقد سلف.
          قال ابنُ حزمٍ: يقول مَن أجاز نكاح المحرِم: لا يُعدَل يزيدُ بنُ الأصمِّ الأعرابيُّ بابنِ عبَّاسٍ، قالوا: وقد يخفى على ميمونةَ كونُه _◙_ محرِمًا، فالمخبِر بكونه كان محرِمًا معه زيادة عِلْمٍ، وخبرُ ابنِ عبَّاسٍ واردٌ بزيادة حكمٍ فهو أَوْلى، وقالوا في خبر عثمانَ: معناه لا يوطِئُ غيره ولا يطَؤُه ليس بشيءٍ، أمَّا تأويلهم في خبر عثمانَ فقد بيَّنه قوله: (وَلَا يَخْطُبُ) فصحَّ أنَّه أراد النِّكاح الَّذي هو العَقد.
          وأمَّا ترجيحُهم ابنَ عبَّاسٍ على يزيدَ فنعم، واللهِ لا يُقرَنُ يزيدُ بعبدِ الله ولا كرامة، وهذا تمويهٌ مِنْهم لأنَّ يزيدَ إنَّما رواه عن ميمونةَ، وروى أصحاب ابنِ عبَّاسٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، فليسمعوا الآن إلى الحقِّ، ونحن لا نَقرِن ابنَ عبَّاسٍ صغيرًا منَ الصَّحابة إلى ميمونةَ أمِّ المؤمنين، لكن نعدل يزيدَ إلى أصحاب ابنِ عبَّاسٍ ولا نقطع بفضلهم.
          قلتُ: إنْ كان يزيدُ رواه عن خالته، فابنُ عبَّاس يجُوز أنْ يرويَه عن رسول الله _صلعم_ أو يرويه عن أبيه الَّذي ولي عُقدة النِّكاح بمشهَدٍ مِنْ عبد الله ومرأًى، أو رواه عن خالته المرأة العاقلة، فقُدِّمت روايتُه على رواية يزيدَ لاختصاصه وضبطه وعلمِه، وقد أسلفنا لعبد الله متابعين وليس ليزيدَ عن خالته بمتابعٍ.
          وقال المرُّوذِيُّ: سألت أحمدَ عنْ نكاح المحرِم فقال: أذهبُ فيه إلى حديث عثمانَ، قلتُ: إنَّ أبا ثورٍ قال لي: بأيِّ شيءٍ تدفع حديث ابنَ عبَّاسٍ؟ فقال: الله المستعان.
          قال: وأمَّا قولهم: قد يخفى على ابنِ عبَّاسٍ إحلالُ رسول الله _صلعم_ مِنْ إحرامِه، فالمخبِرة بكونه قد أحلَّ زائدةٌ علمًا، وأمَّا قولهم: خبرُ ابنِ عبَّاسٍ واردٌ لحكمٍ زائدٍ، فليس كذلك، بلْ خَبرُ عُثْمان هو الزَّائد الحكم، فبقي أنْ نرجِّحَ خبر عثمانَ وخبر ميمونةَ على خبر ابنِ عبَّاسٍ، فنقول: خبرُ يزيدَ عنها هو الحقُّ، وقولُ ابن عبَّاسٍ وَهْمٌ لا شكَّ فيه لوجوهٍ:
          أوَّلها: أنَّها هي أعلم بنفسها مِنْه.
          ثانيها: أنَّها كانت إذ ذاك امرأةً كاملةً، وكان ابنُ عبَّاسٍ يومئذٍ ابنَ عشرةِ أعوامٍ وأشهرٍ، فبيْن الضَّبطين فرٌق لا يخفى.
          ثالثها: أنَّه إنَّما تزوَّجها في عُمرة القضاء، هذا / ما لا يختلف فيه اثنان، ومكَّةُ يومئذٍ دارُ حربٍ، وإنَّما هادنهم على أنْ يدخلَها معتمرًا، ويبقى فيها ثلاثة أيَّامٍ فقط ثمَّ يخرج، فأتى مِنَ المدينة محرِمًا بعمرةٍ ولم يقدِّم شيئًا إذْ دخل على الطَّواف والسَّعي وتمَّ إحرامُه في الوقت، ولم يشكَّ أحدٌ في أنَّه إنمَّا تزوَّجها بمكَّةَ حاضرًا لها لا بالمدينة، فصحَّ أنَّها بلا شكٍّ إنَّما تزوَّجها بعد تمام إحرامِه، لا في حال طوافه وسعيه، فارتفع الإشكال جملةً، وبقي خبر عثمانَ وميمونةَ لا مُعارض لهما، ثمَّ لو صحَّ خبرُ ابنَ عبَّاسٍ بيقينٍ، ولمْ يَصحَّ خبرُ ميمونةَ لكان خبرُ عثمانَ هذا الزَّائدُ الوارد بحكمٍ لا يحلُّ خلافُه لأنَّ النِّكاح قد أباحه الله في كلِّ حالٍ.
          ثمَّ لَمَّا أمر رسولُ الله _صلعم_ ألَّا يَنكِح المحرِم كان بلا شكٍّ ناسخًا للحال المتقدِّمة مِنَ الإباحة لا يمكن غيرُ هذا أصلًا، وكان يكون خبر ابنِ عبَّاسٍ منسوخًا بلا شكٍّ لموافقته للحال المنسوخة بيقينٍ.
          قلتُ: روى مالكٌ عنْ ربيعةَ عنْ سليمانَ بنِ يسارٍ أنَّ رسول الله _صلعم_ بعث أبا رافعٍ ورجلًا مِنَ الأنصار يزوِّجَانِه ميمونةَ، ورسولُ الله _صلعم_ بالمدينة قبل أنْ يخرج، وهذا يُبعِد احتمال أنَّهما زوَّجاه إيَّاها وهو متلبِّسٌ بالإحرام في طريقه إلى مكَّة، ولَمَّا حَلَّ بنَىَ بها كما سبق عن أبي رافعٍ: ((وَكُنْتُ السَّفِيْرَ بَيْنَهُمَا)) لأنَّه لمْ يطَّلعْ إلَّا على حالٍ باشرها بنفسه؛ لأنَّه فارق رسول الله _صلعم_ وهما حلالان، فجاءَ بالزَّوجة إليه وهما حلالان، ولم يتعرَّض لِما بيْن ذَلِكَ، إذْ قوله بالمدينة قبل أنْ يخرج صريحٌ في خلاف ذَلِكَ، وأنَّه حلالٌ لأنَّه لمْ يُحرِم إلَّا بعد خروجه مِنَ المدينة.
          وفي «الطَّبقات»: أنَّهما أضلَّا بعيريهما إلى أنْ قدِم رسول الله _صلعم_ فمشى إلى بيت العبَّاس فأنكحه إيَّاها. وذكر موسى بنُ عقبةَ عنِ ابنِ شهابٍ: خرج رسول الله _صلعم_ معتمرًا في ذي القَعْدة، فلمَّا بلغ موضعًا ذكره، بعث جعفرَ بنَ أبي طالبٍ بين يديه إلى ميمونةَ يخطبُها عليه، فجعلتْ أمرها إلى العبَّاس فزوَّجَها مِنْه، وقد أوضح ذَلِكَ أبو عبيدةَ في كتاب «الزَّوجات»: توجَّه رسول الله _صلعم_ إلى مكَّة معتمرًا سنة سبعٍ، وقدَّم جعفرًا يخطب عليه ميمونة، فجعلتْ أمرها إلى العبَّاس فأنكحها رسولَ الله _صلعم_ وهو محرِمٌ، وبنى بها بسَرِفَ وهو حلالٌ.
          وأجاب بعضُ أصحابنا فقال: المراد (وَهُوَ مُحْرِمٌ) أي في الحرم وهو حلالٌ، لأنَّه يُقال لِمَن هو في الحرم: محرِمٌ وإنْ كان حلالًا، وهي لغةٌ شائعةٌ معروفةٌ، ومنه البيت المشهور:
قَتَلوا ابنَ عفَّانَ الخليفةَ مُحْرِما
          وعُورض بأنَّ كسرى قُتل بالمدائن مِنْ بلاد فارسَ وقد قال الشَّاعر:
قَتَلُوا كِسْرى بليلٍ مُحرِما
          أو أراد بمحرِمٍ: في الأشهر الحُرُم، وأُجيب أيضًا: بأنَّه تَعارَضَ مَعَنا قولِه وفعلِه، وفيها الخلاف المشهور في الأصول، والرَّاجحُ القولُ لِتَعَدِّيهِ، والفعلُ قَد يكون مقصورًا عليه.
          وثَمَّ جوابٌ آخرُ وهو: أنَّ ذَلِكَ مِنْ خصائصه على الأصحِّ، وقد روى الدَّارقطنيُّ مِنْ حديث أبي الأسود ومطرٍ الورَّاق عنْ عِكْرمةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: ((أَنَّهُ _◙_ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ)) لكن قال: تفرَّد به محمَّدُ بنُ عثمانَ بنِ مَخْلَدٍ عن أبيه عنْ سَلَّامٍ أبي المنذِر وهو غريبٌ، عن مَطَرٍ وضعيفٌ.
          وأجاب بعضهم عن حديث ابنِ عبَّاسٍ بأنَّه قد يكون أخذ في ذَلِكَ بمذهبه أنَّه مَنْ قلَّد هديَه صار محرِمًا بالتَّقليد، فلعلَّه علِم بحالِه بعد أنْ قلَّد الشَّارعُ هديَه.
          فرعٌ: خُطبته مكروهةٌ كراهةَ تنزيهٍ للحديث السَّالف.
          فرعٌ: يجوز له رجعتُها على الأصحِّ، وبهِ قال مالكٌ وأبو حنيفةَ وخالفَ أحمدُ فيه.