التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل

          ░6▒ بَابٌ: إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا لَمْ يَقْبَلْ.
          1825- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيثيِّ، أنَّه أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ _صلعم_ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأبْوَاءِ، أَو بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عليه، فَلَمَّا رَأى مَا فِي وَجْهِهِ قال: (إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ). /
          هذا الحديث أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سعيدِ بن جُبَيرٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قال: ((أَهْدَى الصَّعْبُ)).
          وكذا رواه مُجَاهِدٌ عند ابن أبي شَيبَةَ، جعلاه مِنْ مسنَد ابن عَبَّاسٍ، وأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أيضًا مِنْ حَدِيثِ طاوسٍ: ((قَدِمَ زَيدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَقال لَهُ ابن عَبَّاسٍ يَسْتَذْكِرُهُ: كَيفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمٍ أُهْدِيَ لرَسُولِ اللهِ _صلعم_ وَهُوَ حَرَامٌ؟ فقال: أُهْدِيَ لَهُ عضُد مِنْ لَحْمِ صَيدٍ فَرَدَّهُ، فَقال: إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ إِنَّا حُرُمٌ)) وكذا رواه عطاءُ بن أبي رَباحٍ عند أبي داودَ وأبي عبد الرَّحْمَنِ.
          وعند الحاكم على شرط مسلمٍ مِنْ حَدِيثِ حمَّاد بن سَلَمَةَ عن قيس بن سعدٍ عن عطاءٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه قال: ((يَا زَيدُ بْنَ أَرْقَمَ، هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ أُهْدِي لَهُ بَيضَاتُ نَعَامٍ، وَهُوَ حَرَامٌ فَرَدَّهُنَّ؟ قال: نَعَمْ)).
          قال ابنُ عبد البرِّ: لم يُختلف في إسناده على مالكٍ وعلى ابن شِهَابٍ، وكلُّ مَنْ في إسناده، فقد سمعه بعضُهم مِنْ بعضٍ سماعًا، كذلك في الإخبار عَنِ ابنِ شِهَابٍ، أخبرني عُبيد الله قال: سمعتُ ابن عَبَّاسٍ قال: أخبرني الصَّعب، وممَّنْ رواه عَنِ ابنِ شِهَابٍ _كما رَوَاهُ مَالِكٌ_ معمرٌ وابن جُرَيجٍ وعبد الرَّحْمَنِ بن الحارث وصالح بن كَيْسَانَ وابن أخي ابن شِهَابٍ واللَّيث ويونسُ ومحمَّد بن عمرو بن عَلْقَمَة كلُّهم قال فيه: ((أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ _صلعم_ حِمَارُ وَحْشٍ)) كما قال مَالِكٌ، وخالفهم ابن عُيَيْنةَ وابن إسحاقَ فقال: ((أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ لَحْمُ حِمَارٍ وَحْشٍ)) قال ابنُ جُرَيجٍ في حديثه: قلتُ لابن شِهَابٍ: الحمار عقيرٌ؟ قال: لا أدري، فقد بيَّن ابن جُرَيجٍ أنَّ ابن شِهَابٍ شكَّ فلم يدرِ أكَانَ عقيرًا أم لا؟ إلَّا أنَّ في مسَاقِ حديثه: ((أَهْدَيتُ لِرَسُولِ اللهِ _صلعم_ حِمَارَ وَحْشٍ، فَرَدَّهُ عَلَيَّ)).
          وروى القاضي إسماعيلُ عن سليمانَ بنِ حربٍ عن حمَّاد بن زيدٍ عن صالح بن كَيْسَانَ، عن عُبيد الله عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عن الصَّعب: ((أنَّه _◙_ أَقْبَلَ حتَّى إِذَا كَانَ بِقُدَيدٍ أُهْدِيَ إِلَيهِ بَعْضُ حِمَارِ وَحْشٍ فَرَدَّهُ وَقال: إِنَّا حُرُمٌ لَا نَأْكُلُ الصَّيدَ)).
          كذا قال: عن صالحٍ عن عُبيد الله، ولم يذكرِ ابنَ شِهَابٍ، وقال: ((بَعْضُ حِمَارِ))، وعند حمَّاد بن زيدٍ في هذا أيضًا عن عمرِو بن دينارٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عن الصَّعب: ((أنَّه أَتَى النَّبِيَّ _صلعم_ بِحِمَارِ وَحْشٍ))، رواه إبراهيمُ بن سعدٍ عن صالحٍ عَنِ ابنِ شِهَابٍ كما قدَّمناه، وهو أَولى بالصَّواب عند أهل العلم، وفي رواية سعيدِ بن جُبَيرٍ ومِقْسَمٍ وعطاٍء وطاوسٍ: ((لَحْمِ حِمَارِ وَحْشٍ))، قال سعيدٌ: ((عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ فَرَدَّهُ يَقْطُرُ دَمًا)) رواه شُعْبَة عن الحَكَم عَنْهُ، وقال مِقْسَمٌ: ((رِجْلَ حِمَارِ))، وقال عطاءٌ: ((عَضُدُ صَيدٍ))، وقال طاوسٌ: ((عُضْوًا مِنْ لَحْمِ صَيدٍ))، وكذا قال غيره.
          هكذا رواه الزُّهْرِيُّ عن عُبيد الله، وهو أثبتُ النَّاس فيه وأحفظُهم عَنْهُ، وظاهر تبويب البُخَارِيِّ أنَّه كَانَ حيًّا، وقال بعضهم في بعض الرِّوايات: ((رِجْلَ حِمَارِ))، وهو دالٌّ على صحَّة قولِ ابن عُمَرَ وابن عَبَّاسٍ إنَّ أكْل لحمِ الصَّيد حرامٌ على المحرِم.
          قال إسماعيلُ القاضي: سمعتُ سليمانَ بن حربٍ يتأَوَّل هذا الحديثَ على أنَّه مِنْ أجل رسول الله _صلعم_ ولولا ذَلِكَ كَانَ أكلُه جائزًا، قال سليمانُ: وممَّا يدلُّ على أنَّه صِيدَ مِنْ أجلِه قولهم فِي الحَدِيثِ: ((يَقْطُرُ دَمًا)) كَأنَّه صِيد في ذَلِكَ الوقت، قال: وَإِنَّمَا تأوَّل سليمانُ لأنَّه موضعٌ يُحتاج إليه.
          وأمَّا رواية مالكٍ فلا تحتاج إلى تأويلٍ لأنَّ المحرِم لا يجوز له أنْ يمسِك صيدًا حيًّا ولا يذكِّيه، وَإِنَّمَا يحتاج إلى التَّأويل قول مَنْ قال: ((بَعْضُ حِمَارِ))، قال إسماعيل: وعلى تأويل سليمان تكون الأحاديث كلُّها المرفوعة في هذا الباب غيرَ مختلفةٍ، وفي «المبسوط» مِنْ رواية ابن القَاسِم ونافعٍ، عَنْ مَالِكٍ: ((كَانَ الحِمَارُ حَيًّا)).
          وقال الطَّبَرِيُّ: الأخبارُ عن الصَّعب مضطربةٌ، والصَّحيح أنَّه حيٌّ للإجماع على منع قَبول المحرِم هبةَ الصَّيد، وكيف يكون رِجلَه وهو يَقُولُ: (إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ) وهو يأكل لحمه، فردُّه عليه يَحْتَمِل أنَّه لا يصحُّ له قَبوله أو يصحُّ فيرسله، قال الشَّافعيُّ: فإن كَانَ الصَّعب أهدى الحمارَ حيًّا، فقد يَحْتَمِل أنْ يكون علم أنَّه صِيد له فرده عليه، وإيضاحه في حديث جابرٍ _يعني السَّالفَ قبلُ_ قال الشَّافعيُّ: وحديث مالكٍ أنَّ الصَّعب أهدى حمارًا أثبتُ مِنْ حَدِيثِ أنَّه أهدى له لحمَ حمارٍ.
          قال البَيهَقِيُّ: وقد رُوِيَ في حديث الصَّعب أنَّه أكل مِنْهُ، ذكره ابن وهْبٍ، عن يحيى بن أيُّوبَ، عن يحيى بن سعيدٍ عن جَعْفَرِ بن عَمرِو بن أميَّة الضَّمْرِيِّ، عن أبيه: ((أَنَّ الصَّعْبَ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ _صلعم_ عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ، وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ فَأَكَلَ مِنْهُ، وَأَكَلَ الْقَومُ)) قال البَيهَقِيُّ: وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
          فإن كَانَ محفوظًا فكَأنَّه ردَّ الحيَّ وقَبِل اللَّحم. ونقل التِّرْمِذِيُّ أيضًا عَنِ الشَّافعيِّ النَّصَّ السَّالف أيضًا فقال عَنْهُ: وجهُ هذا عندنا إِنَّمَا ردَّه لما ظنِّ أنَّه صِيد مِنْ أجله وتركَه على التَّنزُّه، قال التِّرْمِذِيُّ: وقد روى بعضُ أصحاب الزُّهْرِيِّ عن الزُّهْرِيِّ هذا الحديث، وقالوا: ((أَهْدَى لَهُ لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشٍ)) وهو غير محفوظٍ.
          ولأبي داودَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أنَّه قال: ((أَنْشُدُ اللهَ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ أَشْجَعَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ أَهْدَى إِلَيهِ رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ؟ قالوا: نَعَمْ)) ولأحمد: ((فَشَهِدَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَة، ثمَّ قال عَلِيٌّ _◙_: أنشدُ اللهَ رَجُلًا شَهِدَ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ حِينَ أُتِيَ بِبَيضِ النَّعَامِ، فَقال: إِنَّا قَومٌ حُرُمٌ، أَطْعِمُوهُ أَهْلَ الْحِلِّ، فَشَهِدَ دُونَهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ مِنَ الِاثْنَي عَشَرَ)).
          وللنَّسائيِّ مِنْ حَدِيثِ مالكٍ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث، عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سَلَمَةَ، عن البَهْزِيِّ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ حتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوحَاءِ، إِذَا حِمَارُ وَحْشٍ عَقِيرٌ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ _صلعم_ فَقال: دَعُوهُ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ. فَجَاءَ الْبَهْزِيُّ وَهُوَ صَاحِبُهُ فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ، فَأَمَرَ _◙_ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهُ بَينَ الرِّفَاقِ، / ثمَّ مَضَى حتَّى إِذَا كَانَ بِالْأُثَايَةِ بَينَ الرُّوَيثَةِ وَالْعَرْجِ، إِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ فِي ظِلٍّ وَفيه سَعْفٌ، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقِفُ عِنْدَهُ فَلَا يَرْمِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، حتَّى يُجَاوِزُوهُ)) ثمَّ قال: تابعه يزيدُ بن هارونَ عن يحيى به، وفي لفظٍ: ((فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ طَيِّئٍ فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ رَمِيَّتِي فَشَأنُكَ بِهَا)).
          وفي «الإعراب» لأبي محمَّد بن حزمٍ: روى حمَّاد بن سَلَمَةَ، عن عمَّار بن أبي عمَّارٍ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفلٍ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ رَدَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ تَتْمِيرَ وَحْشٍ وَبَيضَ نَعَام)).
          قال: ورُوِّيناه أيضًا مِنْ طريق حمَّاد بن سَلَمَةَ، عن عَلِيِّ بن زيدٍ، عن عبد الله بن الحارث، عن عَلِيٍّ مرفوعًا، وفي «سنن أبي قُرَّة» مِنْ حَدِيثِ جُبَير بن محمَّد بن عَليٍّ، قالت عائشة: ((أُهْدِيَت لِرَسُولِ اللهِ _صلعم_ ظَبْيَةٌ فيها وَشِيقَةُ صَيدٍ وَهُوَ حَرَامٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ)).
          إذا تَقَرَّرَ ذَلكَ، فالإهداء كَانَ في توجُّهه إلى الحُدَيبِيَة، كما ذكره ابن سعدٍ، والإجماع قائمٌ أنَّه لا يجوز للمحرِم قَبول الصَّيد حيًّا إذا وُهب له بعد إحرامِه، ولا يجوز له شراؤه ولا إحداثُ ملكه لقوله _تعالى_: {وَحُرِّمَ عَلَيكُمْ صَيدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] ولحديث الصَّعب، وَإِنَّمَا ردَّه لأنَّ مذبوحَه ميتةٌ، ثمَّ ذكر اختلاف الرِّوايات هل كَانَ حيًّا أو مذبوحًا؟ فعَنْ مَالِكٍ: كَانَ حيًّا، وعن سعيدِ بن جُبَيرٍ: كَانَ مذبوحًا يقطر دمًا.
          وذكر غير ذَلكَ، قال الطَّحَاوِيُّ: فقد اتَّفقتِ الآثار في حديث الصَّعب عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه كَانَ غير حيٍّ، وذلك حجَّةٌ لِمَنْ كره للمحرِم أكلَ الصَّيد، وإن كَانَ الَّذِي تولَّى صيده وذبحه حلالًا، وقد خالف ذَلكَ حديثُ جابرٍ.
          قال ابنُ بَطَّالٍ: واختلافُ روايات حديث الصَّعب تدلُّ على أنَّها لم تكن قضيَّةً واحدةً، وَإِنَّمَا كَانَت قضايا، فمرَّةً أُهدي إليه الحمار كلُّه، ومرَّةً عضُدُه أو رِجلُه أو عَجُزه لأنَّ مثل هذا لا يذهب على الرُّواة ضبطُه حتَّى يقع فيه التَّضادُّ في النَّقل والقصَّة واحدةٌ، وأوَّل الطَّحَاوِيُّ حديث: ((أَو يُصَادَ لَكُمْ)) على أو يُصاد لكم بأمركم.
          وفيه مِنَ الفقه ردُّ الهديَّة إذا لم تحِلَّ للمهدَى له، وفيه الاعتذارُ لردِّها.
          تنبيهاتٌ: أحدُها: قال ابنُ التِّينِ: الأَولى في ردِّه أنَّه لا يصحُّ له قَبوله، ويَحْتَمِل أن يصحَّ إرساله فلا فائدة في قَبوله إلَّا الإضرارُ بمَنْ كَانَ له، قال: فإنْ قَبِلَهُ وجب إرسالُه، ولم يكن له ردُّه على قياس المذهب، وفي الملك بالقَبول رأيان، وذكر الخَطَّابِيُّ عن أبي ثَورٍ أنَّه إذا اشتراه محرِمٌ مِنْ محرِمٍ كَانَ ذَلِكَ المحرِم البائعُ مَلَكَهُ قبل ذَلكَ فلا بأسَ.
          وقال ابنُ حَبِيبٍ: فمَنِ ابتاع صيدًا له ردُّه على بائعه إن كَانَ حِلًّا، ولو ردَّه عليه لزمَه جزاؤه، وقال أشهب في محرِمٍ اشترى عشَرةً مِنَ الطَّير فذهب مِنْهَا ناسيًا لإحرامه ثمَّ ذَكَر، ثمَّ جاء بها _يعني ليردَّها على بائعها_: فما ذَبَح أو أمر بذبحه يلزمُه، وما بقي ردَّه ويلزم البائعَ شاء أو أبى، وَقِيلَ: الشِّراء فاسدٌ لا يصحُّ، ومَنْ صحَّحه أوجب إرسالَه، وقال ابن عبد البَرِّ: لأهل العلم قولان في المحرِم يشتري الصَّيد، الأوَّل: الشِّراء فاسدٌ، الثَّانِي: صحيحٌ، وعليه أن يُرسِلَه.
          فإن اضطُرَّ إلى أكل الميْتة، أيجوز له أن يأكل الصَّيدَ أو الميْتةَ؟ قال مَالِكٌ: يأكل الميْتةَ لأنَّ الله تعالى لم يرخِّص للمُحرِم في أكل الصَّيد ولا أخذِه على حالٍ مِنَ الأحوال، ورخَّص في الميْتة في حال الضَّرُورَة، وهو قول عطاءٍ والثَّورِيِّ، وقال أبو حنيفةَ: يأكل الصَّيد ولا يأكل الميْتة.
          وقال مَالِكٌ: ما قتله المحرِم أو ذبَحَه مِنَ الصَّيد فلا يحلُّ أكلُه لحلالٍ ولا لحرامٍ لأنَّه ليس بذكيٍّ، خطأً كَانَ قتلُه أو عمدًا، وقال أبو حنيفةَ وصاحباه: إذا رمى المحرِم الصَّيد وسمَّى فقتَله فعليه جزاؤه، فإنْ أكل مِنْهُ حلالٌ فلا شيءَ عليه، وإن أكل مِنْهُ المحرِمُ الَّذِي قتله بعدما جزَاه فعليه قيمةُ ما أَكل مِنْهُ في قول أبي حنيفةَ، وقال صاحباه: لا جزاءَ عليه ولا ينبغي أن يأكله حلالٌ ولا حرامٌ، وهو قول القَاسِم وسالمٍ، وللشَّافعيِّ قولان: أحدهما: مثلُ قول مالكٍ، والآخر: يأكلُه ولا يأكل الميْتة.
          وقال أبو ثورٍ: إذا قتل المحرِم الصَّيدَ فعليه جزاؤُه، وحلالٌ أكلُ ذَلكَ الصَّيدِ إلَّا أنِّي أكرهُه للَّذي صادَهُ لحديث جابرٍ، وروى الثَّورِيُّ عن أشعثَ عن الحَكَم بن عُتَيْبةَ أنَّه قال: لا بأسَ بأكلِه يعني ذَبْحَ المحرِمِ الصَّيدَ، قال الثَّورِيُّ: وقول الحَكَم هذا أحبُّ إليَّ.
          وقال ابن العربيِّ في «مسالكه»: إذا قَتل صيدًا مملوكًا وجب عليه مَعَ الجزاءِ القيمةُ، وبه قال أبو حنيفةَ وَالشَّافعيُّ، وقال ابنُ الموَّاز: لا جزاءَ عليه إِنَّمَا عليه القيمةُ، دليلنا قوله _تعالى_: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95].
          ثانيها: الأصل في (أَهْدَى) التَّعدِّي بإلى، وقد يتعدَّى باللَّام، ويكون بمعناه، ويَحْتَمِل أنَّ اللَّام بمعنى أَجْلٍ، وفيه ضعفٌ.
          ثالثها: أسلفنا أنَّ البُخَارِيَّ فَهِمَ مِنْهُ الحياةَ ولذلك بوَّب عليه كما مضى، وعلى هذا الفهمِ أنَّ المحرِم يرسل ما بيده مِنْ صَيدٍ لأنَّه لم يشرع لنفسِه ملكه لأجل الإحرام، والجمعُ بينه وبين الرِّواية الأخرى أنَّه كَانَ مذبوحًا، أنَّه جاء به أوَّلًا ميْتًا، فوضعَه بقربه، ثمَّ قطع مِنْهُ ذَلكَ العضوَ فأتاه به، أو يكون أطلق اسمَ الحمار وهو يريد بعضَه مِنْ باب التوسُّع والتجوُّز، أو كَانَ أوَّلًا حيًّا فلما ردَّه ذكَّاه وأتى ببعضه، ولعلَّه ظنَّ أنَّه إِنَّمَا ردَّه لمعنى يخصُّ الحمارَ بجملته فلمَّا جاءه بجزئِهِ أعلمَه بامتناعِه أنَّ حُكْم الجزء حُكْمُ الكلِّ.
          رابعها: في «إكمال القاضي» عن أبي حنيفةَ: لا يحرُم على المحرِم ما صِيد له بغير إعانةٍ مِنْهُ، وهو مذهب الكُوفِيِّينَ كما أسلفناه، وفي «الاستذكار»: كَانَ عمرُ وأبو هُرَيرَةَ والزُّبَير وكعبٌ ومُجَاهِدٌ وعطاءٌ _في روايةٍ_ وسعيدُ بن جُبَير يرَون للمحرم أكلَ الصَّيد على كلِّ حالٍ إذا اصطاده الحلالُ صِيد مِنْ أجله أو لم يُصَدْ، وقد أسلفناه أيضًا.
          خامسها: (نَرُدَّهُ) وكذا ((لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ)) وكذا ((لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ)) وأمثالُها، الأوجه فيه الضَّمُّ عند سِيبَوَيهِ، والرِّوايةُ بالفتح كما قاله عِياضٌ، وقال القُرْطُبِيُّ: المحدِّثون يقيِّدونه بفتح الدَّال، وإن كَانَ متَّصلًا بهاء المذكَّر المضمومة، وقيَّده المحقِّقون بضمِّها مراعاةً للواو المتولِّدة عن ضمَّة الهاء ولم يَحْفِلوا بالهاء لخفائها، وكَأنَّهم قالوا: رَدُّوا، / كما فتحوها مَعَ هاء المؤنَّث مراعاة للألف، وكَأنَّهم قالوا: وَدُّوا، وهذا مذهب سِيبَوَيهِ والفارسيِّ.
          سادسها: قوله: (أَنَّا حُرُمٌ) هو بفتح الهَمزة على أنَّه تعدَّى إليه الفعل بحرف التَّعليل، فكَأنَّه قال: لأنَّا، وبكسرها لأنَّها ابتدائيَّةٌ.
          و(الأبْوَاء) _بالمدِّ_ قريةٌ جامعة مِنْ عمل الفُرْع مِنَ المدينة بينها وبين الجُحفة ممَّا يلي المدينة ثلاثةٌ وعشرون ميلًا، سُمِّيت بذلك لتَبَوُّءِ السُّيول بها، وَقِيلَ: عشَرةٌ، وبها توفِّيت آمنةُ أمُّ رسول الله _صلعم_ ودُفنت، و(وِدَّان) قريةٌ جامعةٌ مِنْ عمل الفُرْع أيضًا بينها وبين الأبواء نحوُ ثمانية أميالٍ.
          سابعها: قال أبو عبد الملك: فيه دليلٌ أنَّ الهبة والهدايا تقتضي القَبول، ولولا ذَلِكَ لأطلق الحمار، ولم يردَّه إلى الصَّعب، وذلك خلافُ أن يهَب الرَّجلَ أخاه وابنه وأباه فإنَّه يَعْتِقُ دون قَبولٍ لأنَّ الموهوب له مُضارٌّ في ردِّها.
          ثامنُها: قوله: (فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ) يريد مِنَ التغيُّر إذْ لم يقبلها مِنْهُ لأنَّه كَانَ يقبل الهديَّة، فخاف الصَّعب أن يكون ذَلِكَ لمعنًى يخصُّه، فأعلمَه بالعلَّة ليُزيلَ ما في نفسه.
          قال مَالِكٌ: مَنْ أَحْرَمَ وعنده صَيدٌ فإنْ خلَّفَه في أهله قبل إحرامِه فلا يزول ملكُه عَنْهُ كما لو نكح قبْلَه، وبه قال أبو حنيفةَ وَالشَّافعيُّ في أحد قوليه، والخلاف في ذَلكَ مبنيٌّ على تأويل الآية {صَيدُ الْبَرِّ} [المائدة:96] هل المراد الاصطياد أو الْمَصيد؟ وليس الصَّيد كالنِّكاح، ولو كَانَ الصَّيد بيده زال ملكُه على الأصحِّ، ووجب عليه إرسالُه وإلَّا ضمن، وعندنا أنَّه إذا ورثه يزول ملكه فيرسله، ولو كَانَ في بيته فأَحْرَمَ فملكُه باقٍ، ولا يرسله على الأصحِّ، فإن لم يرسلْه حتَّى حَلَّ أرسلَه خلافًا لأشهبَ كالخمر إذا تخلَّل، وَقِيلَ بالفرق لأنَّ هذا حقٌّ لغيره بِخِلَافِه، ولو أَحْرَمَ وفي يدِه صيدٌ وديعةً لغائب لم يلزمه إطلاقُه، ولو أخذه بعد إحرامه فقد أخطأ ويجب عليه إطلاقه ويغرمُ قيمتَه لربِّه، ذكره في «كتاب محمَّد».
          خَاتِمَةٌ: (الصَّعْب) هو ابن جَثَّامةَ كما سَلَفَ، واسمه يزيدُ بن قيسِ بن رَبِيعَة الكِنانيُّ اللَّيثيُّ، نزيل ودَّان، وهو أخو مُحَلِّم بن جَثَّامة الَّذِي لفظته الأرض، نزل بأخَرةٍ حمصَ، ومات بها في أيَّام ابن الزُّبَيرِ، أعني مُحَلِّمًا.