التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الحجامة للمحرم

          ░11▒ بَابُ: الحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ.
          وَكَوى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيْهِ طِيبٌ.
          1835- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ لنَا عَمْرٌو: أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ عَطَاءٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُوْلُ: احْتَجَمَ رسُوْلَ اللهِ _صلعم_ وَهُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: حَدَّثَنِي طاوسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُما.
          1836- ثمَّ ذَكر حديثَ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: (احْتَجَمَ النَّبِيُّ _صلعم_ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ).
          الشَّرح: حديث ابنِ عبَّاسٍ أخرجه مسلمٌ والأربعة، زاد البخاريُّ: ((وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ))، ولَمَّا خرَّج هذه الزِّيادة النَّسائيُّ عنْ محمودِ بنِ غَيْلانَ: حدَّثنا قَبِيصةُ عنِ الثَّوريِّ عنْ حمَّادٍ عنْ سعيدٍ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ)) قال: هذا خطأٌ، لا نعلم أنَّ أحدًا رواه عنْ سفيانَ غيرَ قَبيصةَ، وقَبيصةُ كثيُر الخطأ، وقد رواه أبو هاشمٍ عنْ حمَّادٍ مرسلًا، ورواه الحُمَيديُّ عنِ ابنِ عُيَيْنةَ، حَدَّثَنَا بِهذَا الحديث عمرُو بنُ مُرَّةَ قال فيه: سمعتُ عطاءً يقول سمعتُ ابنَ عبَّاسٍ، ومَرَّةً سمعته يقول: سمعت طاوسًا يحدِّث عنِ ابنِ عبَّاسٍ، فلا أدري أَسَمِعَه عمروٌ مِنْهما أو كانت إحدى الرِّوايتين وَهْمًا؟ وفي لفظ ابنِ أبي عمرَ عنْ سفيانَ، فقلت لعمرٍو: إنَّما كنتَ تحدِّثُنَاهُ، عنْ عطاءٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، فقال: اسكتْ يا بُنيَّ لمْ أغلطْ، كلاهما حَدَّثَنِي بهذا، وللحاكم: ((احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى رَأْسِهِ)) ثمَّ قال: صحيحٌ على شرطهما، وهو مخرَّجٌ بإسناده فيهما بدون ذكِر الرَّأس.
          وحديث ابنِ بُحَيْنةَ أخرجه مسلمٌ بلفظ: ((احْتَجَمَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطَ رَأْسِهِ))، وفي تعليق البخاريِّ: ((مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ))، ولابنِ ماجَهْ مِن حديث أبي الزُّبير عنْ جابرٍ: ((أَنَّهُ _◙_ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، مِنْ وَهْصَةٍ أَخَذَتْهُ)). ولابنِ أبي شيبةَ: ((مِنْ وَثْءٍ كَانَ بِصُلْبِهِ)).
          وللنَّسائيِّ: ((مِنْ وَثْيٍ كَانَ بِظَهْرِهِ أَوْ وَرِكِهِ)). وفي «سنن أبي قُرَّة» مِن حديث سُفيانَ: حَدَّثنا عبدُ الله بنُ عثمانَ بنِ خُثَيْمٍ، عنْ سعيدٍ عن ابنِ عبَّاسٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ)).
          فائدةٌ: الحاجم هو أبو طَبْيةَ، قال ابنُ سعدٍ في «الطَّبقات»: حَجَمَه أبو طَبْيةَ لثمانِ عشرةَ مِنْ رمضان نهارًا، مِنْ حديث جابرٍ، ومِنْ حديث ابنِ عبَّاسٍ: ((احْتَجَمَ بِالْقَاحَةِ وَهُوَ صَائِمٌ مَحْرِمٌ))، وفي لفظٍ: ((مُحْرِمٌ مِنْ أَكْلَةٍ أَكْلَهَا مِنْ شَاةٍ سَمَّتْهَا امْرَأَة مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ)) وفي حديث بُكيرِ بنِ الأشجِّ: ((احْتَجَمَ فِي الْقَمَحْدُوَةِ)).
          وفي حديثِ عبدِ الله بنِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز: ((كَانَ يُسَمِّيْهَا مُنْقِذًا)) وفي حديث أنسٍ: ((المغيْثَةُ)).
          وفي الحاكم على شرطهما مِنْ حديث أنسٍ: ((أَنَّهُ _◙_ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ)).
          و(لَحْيِ جَمَلٍ) _بفتحِ اللَّام وحكى صاحب «المطالع» كسرَها وسكونِ الحاءِ المهملةِ والجيمِ مفتوحةً ثمَّ ميمٍ ثمَّ لامٍ_ موضعٌ بين المدينة ومكَّة، وهو إلى المدينة أقربُ، احتجم به في حَجَّة الوداع، وهو غير لحي جملٍ الَّذي بين المدينة وفَيْدٍ، ذكره الحازميُّ وياقوتٌ، وزعم أبو عُبيد أنَّه ما في رسم العقيق، وهو بئرُ جملٍ الَّذي وَرَدَ ذكرُها في حديث أبي الجُهَيم: ((أقبل _◙_ مِن نحو بئر جملٍ))، فذكر مسح وجهه ويديه بالجدار.
          وقال صاحب «المطالع»: هي عُقَيبةُ الجَحْفة على سبعة أميالٍ مِنَ السُّقيا، قال: ورواه بعضهم ((لَحْيَيْ جَمَلٍ)) بالتَّثنية، قالَ في «الموطَّأ»: (لَحْيِ جَمَلٍ) بطريق مكَّة، وجزم به ابنُ بطَّالٍ، ولم يحكِ غيره.
          وقوله: (فِي وَسَطِ رَأسِهِ) بيانٌ لموضعها لاختلافها باختلاف مواضعها، وفي حديث «الموطَّأ»: ((احْتَجَمَ فَوْقَ رَأْسِهِ بلِحْيَيْ جَمَل))، وَرُوِيَ أنَّه قال: ((إِنَّهَا شِفَاءٌ مِنَ النُّعَاسِ والصُّدَاعِ والأَضْرَاسِ)).
          وقال اللَّيث: ليست في وسط الرَّأس إنَّما هي في فأسِ الرَّأس، وأمَّا الَّتي في وسط الرَّأس فربَّما أعمتْ، وإنَّما بيَّن أنَّها في الرَّأس لِما يحتاج إليه مِنْ حلْقٍ فربَّما قتلتْ شيئًا مِنَ الدَّوابِّ، قال الدَّاوديُّ: لا يُحلق الشَّعر وإنَّما يُجعل على الشَّعر الخِطميُّ وشبهُه لتمسَكَ المحاجمُ، وقال غيره: يُحلق وإنْ قتل الدَّوابَّ، وذلك كلُّه مباحٌ للضَّرورة عند مالكٍ.
          واختَلف العلماء في الحِجامة للمحرِم، فرخَّص فيها عطاءٌ ومسروقٌ وإبراهيمُ وطاوسٌ والشَّعبيُّ، وهو قول الثَّوريِّ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ أخذًا بظاهر حديث الباب، وقالوا: ما لمْ يقطع الشَّعر، وقال قومٌ: لا يحتجم المحرِم إلَّا مِنْ ضرورةٍ، رُوِيَ ذَلِكَ عنِ ابنِ عمرَ، وبه قال مالكٌ، وحجَّة هذا القول أنَّ بعض الرُّواة يقول: إنَّ النَّبيَّ _صلعم_ احتجم لضررٍ كان به، رواه هشامُ بنُ حسَّانَ، عنْ عِكْرِمةَ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ إنَّمَا احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ لِأَذًى كَانَ بِهِ))، ورواه حُميدٌ الطَّويلُ / عنْ أنسٍ قال: ((احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ)).
          ولا خلاف بين العلماء أنَّه لا يجوز له حلْقُ شيءٍ مِنْ شعره حَتَّى يرميَ جمرة العقبة يوم النَّحر إلَّا مِنْ ضرورةٍ، وأنَّه إنْ حَلَقهُ مِنْ ضرورةٍ فعليه الفديةُ الَّتي قضى بها رسول الله _صلعم_ على كَعبِ بنِ عُجْرةَ، فإنْ لمْ يحلقِ المحتجم شعرًا فهو كالعِرْق يقطعُه، أو الدُّمَّل يبُطُّه، أو القَرحة ينكَؤُها ولا يضرُّه ذَلِكَ، ولا شيء عليه عند جماعة العلماء، وعند الحسن البصريِّ: عليه الفدية.
          وقال ابنُ التِّين: الحِجامة ضربان، موضعٌ يحتاج إلى حلق الشَّعر فيفتدي مِنْ فعلِه، والأصل جوازه لهذا الخبر، وفي الفدية قوله _تعالى_: {فَمَن كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا}الآية [البقرة:196]، وموضعٌ يحتاج إلى حلقٍ في غير الرَّأس فيفتدي، قال عبد الملك في «المبسوط»: شعر الرَّأس والجسد سواءٌ، وبه قال أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ.
          وقال أهل الظَّاهر: لا فدية عليه إلَّا أنْ يحلِق رأسه، فإن كانت في موضعٍ لا يحتاج إلى حلقٍ، فإنْ كانت لضرورةٍ جازتْ ولا فِدية، وإنْ كانت لغير ضرورةٍ فمَنَعه مالكٌ، وأجازه سُحْنونُ، وَرُوِيَ نحوه عن عطاءٍ، فإنْ قلنا: هو ممنوعٌ ففُعِل لغير ضرورةٍ، قال ابنُ حَبيْبٍ: لا فدية عليه، وروى نافعٌ، عنِ ابنِ عمَر: يفتدي، قال مالكٌ: ويبُطُّ المحرِم خُرَّاجَه، ويفقأ دُمَّلَه، ويقطع عرقًا إن احتاج إلى ذَلِكَ.
          وفيه مِنَ الفقه: أنَّ للمحرِم إذا احتاج إلى إخراج دمِه الاحتجامَ والفصْدَ مَا لم يقطع شعرًا، وأنَّ له العلاجَ لكلِّ ما عَرَض له مِن عِلَّةٍ في جسده بما رُجي دفعُ مكروهِها عنه مِنَ الأدوية بعد ألَّا يأتي في ذَلِكَ ما هو محظورٌ عليه في حال إحرامِه، ثمَّ لا يلزمُه بكلِّ ما فعل مِنْ ذلك فديةٌ ولا كفَّارةٌ، وكذلك لو بطَّ له دمَّلًا، وقلع ضرسًا إن اشتكاه لأنَّ النَّبيَّ _صلعم_ احتجم في حال إحرامه لحاجته إلى ذَلِكَ، ثمَّ لم يَنقل عنه ناقلٌ أنَّه حظر ذَلِكَ على أحدٍ مِنْ أمَّته، ولا أنَّه افتدى فبان بذلك أنَّ كلَّ ما كان نظيرَ الحجامة الَّتي هي إخراج الدَّم مِن جسده فله فعلُه، ونظيرُه قلعُ الضِّرس وبَطُّ الجرح، وفصدُ العِرْق، وقطعُ الظُّفر الَّذي انقلع فيعلَقُ فآذى صاحبَه أنَّ على المحرم قَلْعَه، ولا فدية.
          وقال ابنُ المنذِر: أجمعوا على أنَّ للمحرِم أنْ يزيل عنْ نفسِه ما انكسر مِن أظفاره وأجمعوا أنَّه ممنوعٌ مِنْ أخذ أظفاره، وذُكر عنِ الكوفيِّين أنَّ المحرِم إذا أصابه في أظافيره أذًى يقصُّها، وكفَّر بأيِّ الكفَّارات شاء، وقال أبو ثورٍ: فيها قولان أحدُهما: قولُ الكوفيِّين.
          والثَّاني: لا شيء عليه بمنزلة الظُّفر ينكسر، وقال ابنُ القاسم: لا شيء عليه، إذا أراد أنْ يداويَ قَرْحة فلمْ يقدر على ذلك إلَّا أن يقلِّم أظفاره، قال ابنُ عبَّاسٍ: إذا أوجعه ضرسُه ينزعه، فإنَّ الله لا يصنع بأذاكم شيئًا، وكذلك إذا انكسر ظُفره، وقاله عطاءٌ وابراهيمُ وسعيدُ بنُ المسيِّب، وقال عطاءٌ: ينتقِشُ للشَّوكة مِنْ رِجلِه، ويداوي جرحَه، وقال الحسنُ: إنْ أصابته شجَّةٌ فلا بأس أنْ يأخذ ما حولها مِنَ الشَّعر، ثمَّ يداويها بما ليس فيه طِيبٌ.