التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يقتل المحرم من الدواب

          ░7▒ بَابُ: مَا يَقْتُلُ المُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ.
          1826- 1827- 1828- 1829- 1830- 1831حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوْسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ _صلعم_ قَالَ: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى المُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ).
          وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِيْنَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ _صلعم_ قَالَ.
          وَعَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُوْلُ: حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبْيِّ _صلعم_ عَنِ النَّبْيِّ _صلعم_ (يَقْتُلُ المُحْرِمُ).
          وَعَنْ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ _صلعم_: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنُّ: الغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، والفَأرَةُ، والعَقْرَبُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ).
          وعنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أنَّ رَسُوْلَ اللهِ _صلعم_ قَالَ: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَمِ: الغُرَابُ) وذكر الباقي.
          وعَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ _صلعم_ فِي غَارٍ بِمِنًى، إِذْ نَزَلَتْ عَلَينا: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1]، وَإِنَّهُ لَيَتْلُوْهَا، وَإِنِّي لأتَلَقَّاهَا مِنْ فِيْهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا، إِذ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_: (اقْتُلُوهَا) فَابْتَدَرْنَاهَا، فَذَهَبَتْ، فَقَالَ _صلعم_: (وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا).
          وَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ _صلعم_ قَالَ لِلوَزَغِ: (فُوَيْسِقٌ)، وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ.
          قَالَ أَبُوْ عَبْدِ اللهِ: إِنَّمَا أرَدْنَا بِهَذَا أَنَّ هذه نزلت بمكَّة قبل الحجِّ، وأنَّ مِنًى مِنَ الحَرَمِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوا بِقَتْلِ الحَيَّةِ بَأسًا.
          الشَّرح: أمَّا حديثُ ابنِ عمرَ عنْ حفصةَ فأخرجه مسلمٌ بزيادةِ ((كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ)) وحديثَ زيدٍ عنه عنْ إحدى نسوة النَّبيِّ _صلعم_ بلفظ: ((أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْحُدَيَّا، وَالْغُرَابِ، وَالْحَيَّةِ. قَالَ: وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا)).
          وعنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنْ نافعٍ عنِ ابنِ عمرَ: سمعتُ النَّبيَّ _صلعم_ يقول: ((خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي قَتْلِهِنَّ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ)) رواه جماعةٌ عنْ نافعٍ عنِ ابنِ عمرَ، قال: ليس في واحدٍ مِنهم سمعتُ النَّبيَّ صلعم، وفي بعض ألفاظه: ((خَمْسٌ لَا جُنَاحَ فِي قَتْلِ مَا قُتِلَ مِنْهُنَّ فِي الْحَرَمِ)) بمثله، وفي آخرَ: ((خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ)) الحديث.
          زاد على البخاريِّ إباحةَ قتل هذه الدَّوابِّ في الصَّلاة، وذكر الحيَّة ولا سماع ابن عمر مِنْ رسول الله _صلعم_ لهذا، وفي بعض ألفاظِه، أنَّ رسولَ الله _صلعم_ قال: ((خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ: العَقْرَبُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ، وَالغُرَابُ، والحُدَيَّا)) أخرجه في كتاب بدء الخلق، ولمْ يقلْ في حديث حفصةَ: ((كُلُّهُا فَاسِقٌ)).
          وأمَّا حديث عائشةَ أخرجه مسلمٌ بألفاظٍ: ((أَرْبَعٌ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ))، ((خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا))، ((خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ: الْفَأْرَةُ، / وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ فِي الْحَرَمِ)).
          (خَمْسٌ) وهو الصَّحيح في حديث عائشةَ وغيرها: (خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُا فَوَاسِقٌ) ((خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ)) زاد على البخاريِّ: الحلَّ والأبقعَ والحيَّةَ، وإنَّما قال: العقربُ، وزِيدَ في غير «الصَّحيح»: ((الذِّئْبُ))، أخرجه البَيْهقيُّ مِنْ حديث الحجَّاج بنِ أَرْطَأةَ عنْ وَبَرَةَ، والدَّارَقُطنيُّ عنْ نافعٍ قال: سمعتُ ابنَ عمَر يقول: ((أَمَرَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ بِقَتْلِ الذِّئْبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْحِدَأَةِ))، فَقِيْلَ: وَالْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ يُقَالُ ذَلِكَ، قالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: يَعْنِي الْمُحْرِمَ، قال البَيْهقيُّ: وقد رُوِّينا ذكر الذِّئب مِن حديث ابنِ المسيِّب مرسلًا جيِّدًا.
          قلتُ: أخرجه ابنُ أبي شيبةَ مِنْ حديث ابنِ حَرْملةَ عنه، ثمَّ أخرج مِن حديث وَبَرةَ عنِ ابنِ عمرَ: ((يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الذِّئْبَ))، وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: ((اطْرُدِ الذِّئْبَ عَنْ رَحْلِكَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ))، وعنْ قَبِيصةَ: ((يُقْتَلُ الذِّئْبُ فِي الْحَرَمِ))، وقال الحسنُ وعطاءٌ: ((يُقْتَلُ الذِّئْبُ وَالْأَسَدُ))، وعنْ عمرَ قال: ((يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الذِّئْبَ وَالْحَيَّةَ))، وعنْ عطاءٍ: ((يُقْتَلُ الذِّئْبُ وَكُلُّ عَدُوٍّ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ)).
          وقال إسماعيلُ في حديث وَبَرةَ قال: إنْ كان محفوظًا فإنَّ ابنَ عمرَ جعل الذِّئب في هذا الموضع كلبًا عقورًا، وهذا غير ممتنعٍ في اللُّغة والمعنى.
          قال أبو عمر: رواية نافعٍ عنِ ابنِ عمرَ مقتصرةٌ على إباحة قتل الخمسة للمحرم في حال إحرامِه في الحلِّ والحرم جميعًا، وفي رواية سالمٍ: ((لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحِلِّ والحَرَمِ))، وهذا أعمُّ فدخل فيه المحرِمُ وغيره، ومعلومٌ أنَّه ما جاز للمحرِم قتلُه فغيرُه أولى وأحرى به، لكنْ لكلِّ وجهٍ منها حكمٌ.
          وفي رواية أيُّوبَ: ((قِيْلَ لِنَافِع: وَالْحَيَّةُ؟ قَالَ: الْحَيَّةُ لَا شَكَّ فِي قَتْلِهَا))، وفي لفظٍ: ((لَا يُخْتَلَفُ فِي قَتْلِهَا)).
          قال أبو عمرَ: وليس كمَا قال نافعٌ، قدِ اختلف العلماء في جواز قتل الحيَّة للمحرِم، ولكنَّه شذوذٌ، وليس في حديث ابنِ عمرَ عنْ أحدٍ مِنَ الرُّواة ذكرُ الحيَّة، وهو محفوظٌ مِنْ حديث عائشةَ وأبي سعيدٍ وابنِ مسعودٍ.
          قلتُ: قد علمتَ رواية البَيهَقيِّ السَّالفة يوضِّحُه قول نافعٍ: ((الْحَيَّةُ لَا شَكَّ فِي قَتْلِهَا))، يعني في الحديث الَّذي رواه عنْ مولاه، وفي حديث أبي صالحٍ عنْ أبي هريرةَ مرفوعًا: ((خَمْسٌ قَتْلُهُنَّ حَلَالٌ فِي الحرم: الْحَيَّةُ...)) الحديث، وللتِّرمذيِّ _وقال حسنٌ_ مِنْ حديث أبي سعيدٍ مرفوعًا: ((يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ السَّبُعَ العَادِيَ))، ولابنِ ماجَهْ زيادةُ: ((الْحَيَّةَ))، وفي نسخةٍ: ((الضَّاري وَالْفُوَيْسِقَةُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ قِيلَ لَهَا الْفُوَيْسِقَةُ؟ قَالَ: لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ اسْتَيْقَظَ لَهَا، وَقَدْ أَخَذَتِ الْفَتِيلَةَ، لِتُحْرِقَ بِهَا الْبَيْتَ))، ولأبي داودَ ذكرُ: ((الْحَيَّةُ وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ))، وعند ابنِ عمرَ: ((يَقْتُلُ المْحُرِمُ الْأفَعْى وَالْأَسْوَدَ، قَالَ: وَالْأَسْوَدُ الْحَيَّةُ))، وعنْ محمَّدِ بنِ الحَنفيَّة عنْ عليٍّ: ((يَقْتُلُ الْغُرَابَ الْأَبْقَعَ، وَيَرْمِي الْغُرَابَ تَخْوِيْفًا))، قال أبو عمر: حديثٌ فيه ضعفٌ، وحديث أبي سعيدٍ لا يُحتجُّ به على مثل حديث ابنِ عمرَ، وفي الباب عنِ ابنِ عبَّاسٍ أخرجه أحمدُ بإسنادٍ جيِّدٍ: ((خَمْسٌ كُلُّهُنَّ فَاسِقَةٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ، وَيُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْفَأْرَةُ...)) الحديث.
          قال الشَّافعيُّ: المعنى في جواز قتل مَنْ ذُكر لأنهنَّ ممَّا لا يُؤكل وكلُّ ما لا يُؤكل ولا هو متولِّدٌ مِنْ مأكولٍ فقتْلُه جائزٌ للمحرِم ولا فدية عليه، وقال مالكٌ: المعنى فيهنَّ كونُهنَّ مؤذياتٍ وكلُّ مؤذٍ يجوز للمحرِم قتلُه، وما لا فلا. ولنتكلَّم على هذه الحيوانات واحدًا بعد واحدٍ فنقول:
          أوَّلًا: الدَّابَّة لغةً كلُّ ما دبَّ ودَرَج، إلَّا أنَّه استُعمل في عُرفها في نوعٍ مِنَ الحَيَوان، وقد تستعمل على أصلها مع القرائن الَّتي تبيِّن المراد منها، وقد نبَّه _◙_ على جنسها ونوعِها فلذلك جاز أنْ يوقعَ عليها اسم الحيوانات، والهاء فيها للمبالغة، وفيما يرُكب أشهر، قاله صاحب «المنتهى» وقال ابنُ خَالَوَيْهِ: ليس في كلام العرب تصغيرٌ بالألف إلَّا حرفان دُوَابَّة تصغير دُوَيْبَّةٌ، وهُدَاهِدٌ بمعنى هُدَيْهِدٍ، قال ابنُ سِيدَهْ: والدَّابَّة تقع على المذكَّر والمؤنَّث، وحقيقته الصِّفة.
          (الغُرَابُ) واحدُ الغِربان، وجمعُه في القِلَّة أَغْرِبَةٌ، قيل: سُمِّي غرابًا لأنَّه نأى واغترب لَمَّا بعثه نوحٌ يستخبر أمر الطُّوفان، ذكره أبو المَعاني، وله جموعٌ ذكرتُها في «الإشارات»، قال الجاحظ في «الحيوان»: الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، غريبٌ، وهو غرابُ البَيْنِ، وكلُّ غرابٍ فقدْ يُقال له: غرابُ البَيْنِ إذا أرادوا به الشُّؤمَ إلَّا غرابَ البَيْنِ نفسَه فإنَّه غرابٌ صغيرٌ، وإنَّما قيل لكلَّ غرابٍ: غرابُ البَيْنِ لسقوطه في مواضعِ منازلهم إذا بانُوا، وناسٌ يزعمون أنَّ تسَافُدَها على غير تَسَافُدِ الطَّير، وأنَّها تُزاقُّ بالمناقير وتلقِّح مِنْ هنالك، قلتُ: فيه نظرٌ والظَّاهرُ خلافه، وقد أخبرني مَنْ عاينَه كبني آدمَ.
          وفي «الحيوان» للجاحظ: ليس مِنَ الحيوان يتبطَّنُ طَروقتَه _أيْ يأتيها مِنْ جهة بطنها_ غير الإنسان والتِّمساح، وفي «تفسير الواحديِّ»: والدُّبُّ، وفي «الموعَب»: الأبقع الَّذي في صدره بياضٌ، وقال ابن سِيدَهْ: يخالط سوادَه بياضٌ وهو أخبثُها، وبه يُضرب المثل لكلِّ خبيثٍ، وعند أبي عمرَ هو الَّذي في بطنِه وظهرِه بياضٌ، وهو تقييدٌ لمطلق الرِّوايات الأُخَر وبذلك قالت طائفةٌ، فلا يجيزون إلَّا قتلَ الأبقعِ خاصَّةً، وروَوا في ذَلكَ حديثًا عنْ قتادةَ عنِ ابنِ المسيِّب، عنْ عائشةَ مرفوعًا، قال ابنُ بطَّالٍ: وهذا الحديث لا يُعرف مِنْ حديث ابنِ المسيِّب، ولمْ يَرْوِه عنه غيرُ قَتادةَ وهو مدلِّسٌ، وثقاتُ أصحابِ سعيدٍ مِنْ أهل المدينة لا يوجَد عندهم، مع معارَضة حديث ابنِ عمرَ وحفصةَ فلا حُجَّةَ فيه.
          وغيْر هذه الطَّائفة رأَوا جواز قتل الأبقع وغيرِه مِنَ الغِربان، ورأَوا أنَّ ذِكر الأبقع إنَّما جرى لأنَّه الأغلب عندهم، وَرُوِيَ عنْ عطاءٍ ومجاهدٍ قالا: لا يُقتل / الغراب ولكنْ يُرمى، وهذا خلاف السُّنَّة وإنْ كان ورد كما سلف.
          وفي «الهداية»: المراد بالغراب آكلُ الجِيَفِ وهو الأبقع، رُوِيَ ذَلِكَ عنْ أبي يوسفَ، وقال ابنُ العربيِّ: قيل: هو الشَّديدُ السَّواد لأنَّه أكثرُ أذًى، وذكر ابنُ قُتيبةَ أنَّه سُمِّيَ فاسقًا فيما أرى لتخلُّفِه حين أرسله نوحٌ يختبِر الأرضَ، فتَركَ أمرَه ووقع على جِيفةٍ، ويقع أيضًا على دُبر البعير، وينقُب الغرائر.
          وأمَّا الَّذي يأكل الزَّرع فهو الَّذي يُرْمَى ولا يُقتل، وهو الَّذي استثناه مالكٌ مِن جملة الغِربان، وفي قتلهما قولان للمالكيَّة: المشهورُ القتلُ لعموم الحديث، ومَنْ منع القتَل لانتفاء الفسق فيه، وعنْ أبي مصعبٍ فيما ذكره ابنُ العربيِّ قتلُ الغراب والحِدَأ وإنْ لمْ يَبدأ بالأذى، ويُؤكل لحمهما عند مالكٍ، وَرُوِيَ عنه المنع في الحرَم سدًّا لذريعة الاصطياد، قال أبو بكرٍ: وأصل المذهب ألَّا يُقتل مِنَ الطَّير إلَّا ما آذى بخلاف غيرِه فإنَّه يقتل ابتداءً.
          وَ(الفَأْرَةُ) واحدةُ الفئران، وفِئَرَة ذكره ابنُ سِيدَهْ، وفي «الجامع»: أكثرُ العرب على همزها، ولا خلاف بين العلماء في جواز قتل المحرِم لها، كمَا حكاه ابنُ المنذِرِ إلَّا النَّخَعِيَّ فإنَّه منعه مِنْ قتلها، وهو خلافُ السُّنَّة، وخلاف قولِ أهل العلم.
          سُمِّيتْ فُوَيسِقةً لخروجها على النَّاس واغتيالِها أموالَها بالفساد، وأصلُ الفسق الخروجُ عنِ الشَّيء ومنه {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] أي خرج، وسُمي الرَّجل فاسقًا لانسلاخه مِنَ الخير، وقال ابنُ قُتيبةَ: لا أرى الغراب سمَّاه فاسقًا إلَّا لتخلِّيه عنْ أمر نوحٍ حين أرسله، ووقوعه على الجيفة وعصيانه إيَّاه، وحُكِيَ عنِ الفرَّاء: ما أحسب الفأرة سُمِّيت فُوَيسقةً إلَّا لخروجها مِنْ جُحرها على النَّاس، قال الخطَّابيُّ: ولا يعجبني واحدٌ مِنَ القولين، وقد بقي عليهما أنْ يقولا مثلَ ذَلكَ في الحِدَأة والكلب، إذا كان هذا النَّعت لجميعها، وهذا اللَّقب يلزمها لزومَه الغرابَ والفأرةَ، وإنَّما أرادوا _والله أعلم_ به الخروج مِنَ الحُرمة، يقول: خمسٌ لا حُرمةَ لهنَّ، ولا بُقيَا عليهنَّ، ولا فِديةَ على المحرِم فيهنَّ إذا أصابهنَّ، وإنَّما أباح قتلهنَّ دفعًا لعاديهنَّ.
          وفيه وجهٌ آخرُ وهو أنْ يكون أراد بتفسيقها تحريمَ أكلها لقوله _تعالى_ وقد ذكر المحرَّمات: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3]، ويدلُّ على صحَّة هذا حديثُ عائشةَ مرفوعًا: ((الْغُرَابُ فَاْسِقٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَيُؤْكَلُ لَحْمُ الْغُرَابِ؟ قَالت: لَا، وَمَنْ يَأْكُلُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: فَاْسِقٌ؟)). وَرَوَتْ عَمرةُ مثله عنْ عائشة قالتْ: ((وَاللهِ مَا هُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) تريد قوله _تعالى_: {وَيحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف:157].
          وممَّا يدلُّ على أنَّ الغرابَ يُقْذَر لحمُه قولُ الشَّاعر:
فَمَا لَحْمُ الغُرابِ لنا بِزادٍ                     ولا سَرطانُ أَنْهارِ البَرِيضِ
          وقيل: إنَّ (الفَأْرَة) عمَدت إلى حِبال سفينة نوحٍ فقطعتها، وإنَّ الشَّارع رآها تصعَد بالفتيلة على السَّقف.
          وفي تسمية الخمس بالفواسق قيل: لخروجهنَّ عنِ السَّلامة منهنَّ إلى الإضرار والأذى، وقيل: لخروجهنَّ عنِ الحرمة.
          و(العَقْرَبُ) يكون للذَّكر والأنثى، قاله ابنُ سِيدَهْ، قال: وقد يُقال للأنثى عَقْرَبَةٌ، وللذَّكر عُقْرُبَانٌ.
          وقال صاحب «المنتهى»: الأنثى عَقْرَباءُ ممدودٌ غير مصروفٍ، وقيل: العُقْرُبانُ دُوَيْبَّةٌ كثيرةُ القوائم غير العقرب، وعقربةٌ شاذَّةٌ، ومكانٌ مُعَقْرِبٌ _بكسر الرَّاء_ ذو عقاربَ، وأرضٌ معقرِبةٌ، وبعضُهم يقول: مَعْقَرَةٌ؛ كأنَّه ردَّ العقرب إلى ثلاثة أحرفٍ ثمَّ بنى عليه، وفي «الجامع»: ذَكَرُ العقارب عُقْرُبانٌ، والدَّابَّة الكثيرةُ القوائم عَقْرَبَّانٌ بتشديد الباء، قال أبو عمر: والعقرب اللَّدغ، ويتبع الحسَّ، وحكى عنْ حمَّادِ بنِ أبي سليمانَ والحكم أنَّ المحرِم لا يقتل الحيَّة ولا العقرب، رواه عنهما شُعْبةُ، وحُجَّتهما أنَّهما مِنْ هوامِّ الأرض، وما أعجَبَهُ! فنصُّ السُّنَّة بخلافِه.
          و(الكَلْبُ العَقُورُ) قال ابنُ عُيَيْنَة _فيما حكاه أبو عمرَ_: إنَّه كلُّ سبُعٍ يعقِرُ، ولمْ يخصَّ به الكلب، قال سفيانُ: وفسَّره لنا زيدُ بنُ أسلمَ، وكذا قال أبو عُبيدٍ.
          وعنْ أبي هريرةَ: (الكَلْبُ العَقُورُ) الأسدُ، وقد قال _◙_ في عُتْبَةَ بنِ أبي لهبٍ: ((اللهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ)) فعدا عليه الأسدُ فقتلَه، ولأنَّه مأخوذٌ مِنَ التَّكلُّب، والعَقور مِنَ العَقْر، وعنْ مالكٍ هو كلُّ ما عَقَرَ النَّاسَ وعدا عليهم، مثلُ الأسدِ والنَّمِر والفَهْد، فأمَّا ما كان مِنَ السِّباع لا يعدو مثلَ الضَّبُع والثَّعلب وشبهِهما فلا يقتُلُه المحرم وإنْ قتَلَه فداه، وعنِ ابنِ القاسم قالَ مالكٌ: لا بأس بأنْ يقتلَ المحرِم السِّباعَ الَّتي تعدو على النَّاس وتَفترسُ ابتداءً، وأمَّا صِغارُها الَّتي لا تَفترس ولا تعدو فلا ينبغي للمحرِم قتلُها.
          ونَقل النَّوويُّ اتِّفاقَ العلماء على جواز قتل الكلب العَقور للمحرِم والحلال في الحلِّ والحَرم، قال: واختلفوا في المراد به، فقيل: هو الكلب المعروف، حكاه القاضي عِياضٌ عنْ أبي حنيفةَ والأوزاعيِّ والحسنِ بنِ حيٍّ، وألحقوا به الذِّئبَ، قلتُ: قد ورد منصوصًا كما سلف، وحَملَ زُفَرُ الكلبَ على الذِّئب وحدَه، وذهب الشَّافعيُّ والثَّوريُّ وأحمدُ وجمهورُ العلماء إلى أنَّ المرادَ كلُّ مفترِسٍ غالبًا.
          فائدةٌ: قال أبو المَعاني: جمْعُ الكلبِ أَكْلُبٌ وكِلَابٌ وكَلِيْبٌ، وهو جمعٌ عزيزٌ لا يكاد يوجد إلَّا القليل نحو عبدٍ وعَبيدٍ، وجمعُ الأَكْلُبِ أَكَالِبُ، وقال ابن سِيدَهْ: قد قالوا في جمع كِلاب: كِلاباتٌ، قال:
أَحَبُّ كلبٍ في كِلاباتِ النَّاسْ                     إليَّ نَبْحًا كلبُ أمِّ العبَّاسْ
          والكالِبُ _كالحامِل_ جماعةُ الكِلاب، والكَلْبة أنثى الكِلاب، وجمعُها كَلْباتٌ ولا تُكسَّر.
          أخرى: في «الحيوان» للجاحظ تعدادُ معايبِ الكلاب ومثالِبها: خُبْثُها وجُبْنُها وضَعْفُها وشَرَهُها وغَدْرُها وبَذاؤها وجَهْلُها وقَذَرُها وكثرةُ جنايتِها وقلَّةُ ردِّها، ومَنْ ضَرب المثل مِنْ لؤمِها ونَذالتِها وقُبحِها وقبحِ معاضلتها وسماجةِ نباحها، وكثرةِ أذاها وتقزُّزِ النَّاس مِنْ دنوِّها، وأنَّها كالخَلْق الْمُرَكَّب، والحيوانِ الملفَّق، وكالبغل في الدَّوابِّ، / وكالرَّاعِبيِّ في الحَمَام، وأنَّها لا سبُعٌ ولا بهيمةٌ ولا جِنِّيَّةٌ ولا إنسيَّةٌ، وأنَّها مِنَ الجِنِّ دون الجِنِّ، وأنَّها مطايا الجِنِّ ونوعٌ مِنَ المسخ، وتنبُش القبورَ، وتأكل الموتى، وأنَّها يعتريها الكَلَبُ مِنْ أكلِ لحوم النَّاس، وأنَّ جِلدَه منتنٌ إذا أصابه مطرٌ، قال رَوحُ بنُ زِنْباعٍ في أمِّ جعفرٍ زوجتِه:
ريحُ الكَرائم معروفٌ له أرَجٌ                     وريحُها ريحُ كلبٍ مَسَّه مَطرُ
          فالكلب يأكل العَذِرةَ، ويُقال في المثل: أبخل مِنْ كلبٍ على جيفةٍ، ويشغَر ببوله في جوفِ أنفه ويُسدِّدُه تِلْقاء خيشومِه.
          وَ(الْحَيَّةُ) الأفعى كما جاء في رواية، قال عمرُ: هُنَّ عدوٌّ فاقتلوهنَّ، وفي روايةٍ حيث وجدتموها، قاله لمعتمرٍ ولمحرِمٍ، وقال زيدُ بنُ أسلمَ: أيُّ كلبٍ أعقرُ منها؟ وعنْ مالكٍ لا يَقتل المحرِم قردًا ولا خنزيرًا ولا الحيَّة الصَّغيرة، وقال ابنُ بطَّالٍ: أجاز مالكٌ قتل الأفعى وهي داخلةٌ عنده في معنى الكلب العَقور، قال: وأجمع العلماء على جواز قتلها في الحلِّ والحرم، وأمَّا نهيُه _◙_ عنْ قتل جِنَّان البيوت، فأخذَ بعضُ السَّلف بظاهره، وقد قال _◙_ فيما رواه ابنُ مسعودٍ: ((اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ كُلَّهُنَّ، فَمَنْ خَافَ ثَأرَهُنَّ فَلَيْسَ مِنِّي)) وَرُوِيَ هذا القول عنْ عمرَ وابنِ مسعودٍ.
          وقال آخرون: لا ينبغي قتلُ عوامرِ البيوت وسكَّانِها إلَّا بعد مناشدة العهد الَّذي أخذه عليهنَّ، فإنْ ثبت بعدَ النَّشدة قُتِلَ حِذارَ الإصابة فيلحقُه ما لحق الفتى المعرِّسَ بأهلِه حيث وجد حيَّةً على فراشه فقتلها قبل مناشدته إيَّاها، واعتلُّوا بحديث أبي سعيدٍ مرفوعًا: ((إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِنْ رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاقْتُلُوهُ)) ولا تَخالُفَ بينها، وربَّما تمثَّل بعضُ الجِنِّ ببعضِ صور الحيَّات فيظهر لأعينِ بني آدم، كما روى ابنُ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عائشةَ بنتِ طلحةَ، أنَّ عائشةَ أمَّ المؤمنين رأتْ في مُغتَسَلِها حيَّةً فقتلتْها فأُتيتْ في منامِها، فقيل لها: إنَّكِ قتلتِ مسلمًا، فقالت: لو كان مسلمًا ما دخل على أمَّهات المؤمنين، فقيل: ما دخل عليكِ إلَّا وعليكِ ثيابُك، فأصبحتْ فَزِعةً ففرَّقت في المساكينِ اثني عشر ألفًا، وخصَّ ابنُ نافعٍ الإنذارَ بالمدينة على ظاهر الحديث.
          وقال مالكٌ: أحبُّ إليَّ أنْ يُنذَر بالمدينة وغيرِها وهو بالمدينة أوجبُ، ولا ينذَر في الصَّحارى، وقال غيره بالتَّسوية بين المدينة وغيرِها لأنَّ العلَّة إسلام الجنِّ ولا يحِلُّ قتل مسلمٍ جِنيٍّ ولا إنسيٍّ، وممَّا يؤكِّدُ قتلَ الحيَّة ما ذكره البخاريُّ في الباب عنِ ابنِ مسعودٍ أنَّه _◙_ لَمَّا رأى الحيَّة بمنًى قال: (اقْتُلُوهَا) وعند مسلمٍ: ((أَمَرَ مُحْرِمًا بِقَتْلِ حَيَّةٍ بمنًى)).
          ووقع في تفسير سورة المرسلات، قال البخاريُّ: وقال ابنُ إسحاقَ، كذا في أكثر النُّسخ، وكذا ذكره أبو نُعيمٍ في «مستخرجه» وسمَّاه محمَّدُ بنُ إسحاقَ، وفي بعض نُسخ البخاريِّ، وقال أبو إسحاقَ: يعني السَّبيعيَّ، وقال أيضًا في التَّفسير: وقال أبو معاويةَ معلَّقًا، وهو عند مسلمٍ موصولًا: حَدَّثَنَا يحيى بنُ يحيى وغيرُه، عنْ أبي معاويةَ به. وللدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حديث زِرٍّ عنْ عبدِ الله مرفوعًا: ((مَنْ قَتَلَ حَيَّةً، أَوْ عَقْرَبًا فَقَدْ قَتَلَ كَافِرًا)) وقال: الموقوف أشبهُ بالصَّواب.
          و(الوَزَغُ) جمع وَزَغةٍ، ويُجمع أيضًا على وِزْغانٍ وإِزغْانٍ على البدل، قال ابن سِيدَهْ: وعندي أنَّ الوِزغانَ إنَّما جمع وَزَغٍ الَّذي هو جمع وَزَغةٍ، وقال الجوهريُّ: الجمع أَوْزاغٌ. وقال في «المغيث»: الجمع وَازِغٌ، قيل: سُمِّي سامُّ أَبْرَصَ وَزَغًا لخفَّتِه وسرعةِ حركته.
          قال أبو حنيفةَ: إنْ قتلَ المحرِمُ غيرَ الكلبِ العَقورِ والحيَّةِ والعقرب والغُراب والحِدَأة والذِّئب ففيه الجزاءُ إلَّا أنْ يكون ابتدأَتْهُ، فلا جزاءَ عليه فيها، ويَقتل القِردانَ عنْ بعيره ولا شيء عليه، وقال زَفَرُ: سواءٌ ابتدأته السِّباع أم لا، عليه الجزاء فيما قتل منها.
          وقال الطَّحاويُّ: لا يقتل المحرمُ الحيَّة ولا الوَزَغَ ولا شيئًا غير الحِدَأة والغراب والعقرب والكلب العَقور والفأرة. وعند مالكٍ يقتل جميعَ سِباعٍ ذواتِ الأربع إلَّا أنَّه كَرِهَ قَتْل الغراب والحِدَأة إلَّا أنْ يؤذيا، ولا يجوز له قتلُ الثَّعلب والهرِّ الوحشيِّ، وفيهما الجزاء إلَّا إنِ ابتدأه بالأذى، ولا يَقتل الوزغَ ولا البعوضَ ولا قِردان بعيره خاصَّةً، فإنْ قتَله أطعم شيئًا، وإنْ قَتَل شيئًا مِنْ سِباع الطَّيرِ فعليه الجزاء، ويَقتل القُرادَ إذا وجده على نفسِه، واختُلف في صغار الفئران، ولا يقتُل القملَ، فإنْ قتَلها أطعم شيئًا، وعند الشَّافعيِّ في الثَّعلب الجزاءُ.
          قال ابنُ حزمٍ: روى وَكيعٌ عنْ سفيانَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنْ عطاءٍ قال: اقتُلْ مِنَ السِّباع ما عدا عليك وما لمْ يعدُ وأنت محرِمٌ، ومِنْ طريق سُويدِ بنِ غَفَلةَ قال: أمرَنا عمرُ بنُ الخطَّاب بقتل الزُّنبور ونحن محرِمون.
          وعنْ حبيبٍ المعلِّم عنْ عطاءٍ قال: ليس في الزُّنبور جزاءٌ، وعنِ ابنِ عبَّاسٍ مَنْ قتل وزغًا فله صدقةٌ.
          وقال ابن عمر: اقتلوا الوَزَغ فإنَّه شيطانُ، وعنْ عائشةَ أنَّها كانت تقتل الوَزَغ في بيت الله تعالى، وسأل إبراهيمُ بنُ نافعٍ عطاءً عنْ قتله في الحرم، قال: لا بأس، وفي مسلمٍ مِنْ حديث سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ مرفوعًا: ((أَمَرَ بِقَتلِ الأَوْزَاغِ))، وفي حديث عروةَ عنْ عائشةَ أنَّ النَّبيَّ _صلعم_ أمر بقتله، قال أبو الحسن: أخطأ الباغَنْديُّ في متنه، وقال في «علله»: إنَّه وهمٌ، والصَّواب مرسلٌ.
          ورَوَى مالكٌ عنِ ابنِ شهابٍ عنْ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ: ((أنَّه _◙_ أمر بقتله))، وفيه انقطاعٌ بين الزُّهريِّ وسعدٍ، وذكر ابنُ المَوَّاز عنْ مالكٍ قال: سمعتُ ((أنَّ رسول الله _صلعم_ أَمَر بقتل الوَزَغ))، وفي مسلمٍ مِنْ حديث أُبَيٍّ مرفوعًا تِعدادُ الحسنات في قتلها أوَّلًا ثمَّ ثانيًا ثمَّ ثالثًا، وسيأتي عنْ أمِّ شَريكٍ أنَّه _◙_ أمر بقتلها.
          قال ابنُ حزمٍ: وأمَّا النَّمل فلا يحِلُّ قتلُه ولا قتلُ الهُدْهُدِ ولا الصُّرَد ولا النَّحلِ ولا الضِّفدع، لحديث ابنِ عبَّاسٍ قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ _صلعم_ عَنْ قَتْلِ / أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ))
          ولأبي داودَ مِنْ حديث عبدِ الرَّحمن بنِ عثمانَ: ((النَّهيُ عن قتل الضِّفدع))، وفي «الصَّحيح»: ((أنَّ نملةً قرصت نبيًّا مِنَ الأنبياء، فحرَّق قريتَها، فقال له الله _تعالى_: هَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً)). قال التِّرمذيُّ في «نوادره»: ولم يُعاتبه على تحريقِها، إنَّما عَاتَبَه كونه أخذ البريءَ بغيرِه، وذكر كلامًا يقتضي ألَّا حرج في قتلها.
          وقال ابنُ قُدامةَ: كلُّ ما كان طبعُه الأذى والعُدوانَ، وإنْ لمْ يوجَد منه أذًى في الحال في النَّفس أو المال فقتْلُه لا حرجَ فيه مثل سِباعِ البهائم كلِّها المحرَّم أكْلُها، وجوارحِ الطَّير كالبازي والعُقابِ والشَّاهينِ والصَّقرِ ونحوها، والحشراتِ المؤذية كالزُّنبورِ والبقِّ والبعوضِ والذُّبابِ والبراغيثِ، وبه قال الشَّافعيُّ.
          وذكر ابنُ الموَّاز، عنْ مالكٍ: بلغني أنَّ رسول الله _صلعم_ أَمَرَ بقتل الأوزاغ، فأمَّا المحرِمُ فلا يقتلُها فإنْ قَتَلها رأيتُ أنْ يتصدَّقَ، قيل له: قد أذِنَ الرَّسولُ بقتلها، قال: وكثيرٌ ممَّا أَذِنَ في قتله ولا يقتُلُها المحرِم، وفي رواية ابنِ وهْبٍ وابنِ القاسمِ عنه قال: لا أرى أنْ يقتُلَ المحرِمُ الوزغَ لأنَّه ليس مِنَ الخَمْس، فإنْ قتلها تصدَّقَ، قال أبو عمر: الوَزَغُ مُجمَعٌ على تحريم أكله.
          وقال ابنُ التِّين: أباح مالكٌ قتله في الحَرَم وكرِهَهُ للمحرِم، وَرُوِيَ عنْ عائشةَ أنَّها قالت: لَمَّا احترق بيتُ المقدس كانت الأوزاغ تنفُخُه، وقيل: إنَّها نفخت على نار إبراهيمَ مِنْ بين سائر الدَّوابِّ.
          تنبيهاتٌ تُوضِّحُ ما مضى وإنْ سلف بعضُه:
          أحدها: أجمع العلماء على القول بجملة أحاديثِ الباب كما بيَّنَّاه، إلَّا أنَّهم اختلفوا في تَفْصِيْلها، فقال بظاهر حديثِ ابنِ عمرَ وحفصةَ: مالكٌ والثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ، قالوا: ولمْ يَعْنِ بالكلب العَقورِ الكلابَ الإنْسيَّة، وإنَّما عنى بها كلَّ سبُعٍ يعقِر، كذلك فسَّره مالكٌ وابنُ عُيَيْنَةَ وأهلُ اللُّغة.
          وقَال الخليل: كلُّ سبُعٍ عقورٍ كلبٌ، وكلُّهم لا يرى ما ليس مِنَ السِّباع في طبقة العَقْر والعَديِّ في الأغلب في معنى الكلب العقورِ في شيءٍ، ولا يجوز عندهم للمحرِم قتلُ الِهرِّ الوحشيِّ ولا الثَّعلبِ كما سلف، والكلبُ العقورُ عند أبي حنيفةَ المعروفُ وليس الأسدُ في شيءٍ منه، وأجازوا قتلَ الذِّئبِ خاصَّةً ابتدأ به أم لا، ولا شيء عليه فيه فيها، وأمَّا غيرُها مِنَ السِّباع فلا يقتلها، فإنْ قتلها فداها إلَّا أنْ تبتدئَه فلا شيء عليه.
          وأسلفنا كلام الشَّافعيِّ، والحجَّة على أبي حنيفةَ أنَّ الكلب العقورَ اسمٌ لكلِّ ما يَتَكَلَّب مِنْ أسدٍ أو نَمِرٍ أو فَهْدٍ، فيجب أنْ يكون جميعُ ما تناوله هذا الاسم داخلًا تحت ما أُبيح للمحرِم قتلُه، وإذا أُبيح قتلُ العَقور فالأسدُ أولى، وسمَّاهُنَّ فواسقَ كما مضى، فغيرُهنَّ أولى كما نبَّه على غير الحيَّة والعقرب بهما، ونصَّ على الفأرة ونبَّه على ما هو أقوى حيلةً مِنْ جنسها، وعلى الغراب والحِدَأة لخطفِهِما، وعلى الكلب ليُنَبِّه به على ما هو أعظمُ ضررًا منه.
          وأجاز مالكٌ قتلَ الأفعى، وهي داخلة عندَه في معنى الكلب العَقور، والكلبُ العَقور عندَه صِفةٌ لا عينٌ مسمَّاةٌ، وقد نقض أبو حنيفةَ أصلَه بالذِّئب فألحقه بالخَمْس، وليس بمذكورٍ في الحديث، كذا قال ابنُ بطَّالٍ، وقد علمتَ أنَّه مذكورٌ في بعضها، قال: فكذلك يلزمُهُ أنْ يجعل الفَهْد والنَّمِر وما أشبههما في العَدِيِّ بمنزلة الذِّئب.
          وأمَّا الضَّبُع فمأكولٌ عندنا وإنْ كان له نابٌ، لكنَّه ضعيفٌ، وهو مِنَ السِّباع لكنَّه غيرُ داخلٍ فيما أُبيح قتلُه، قال الأوزاعيُّ: كانَ العلماء بالشَّام يَعُدُّونها مِنَ السِّباع، ويكرهون أكلَها، وذكر ابنُ حَبيبٍ عنْ مالكٍ قال: لا يُقتَل الضَّبُع بحالٍ، وقد جاء أنَّ فيها شاةً إلَّا أنْ تؤذيَه، وكذلك قال في الغُراب والحِدَأة.
          قال أشهبُ: سألتُ مالكًا: أيقتلُهما المحرِم مِنْ غير أنْ يَضُرَّا به؟ قال: لا، إنَّما أُذن في قتلِهما إذا ضَرَّا في رأيٍ، فإذا لمْ يَضُرَّا فهما صيدٌ، وليس للمحرِم أنْ يصيد، وليسا مثلَ العقرب والفأرة، ولا بأس بقتلهما وإنْ لمْ يَضُرَّا، وكذلك الحيَّة، والحُجَّة على مَن قال: إنَّه لا يوجَب الجزاءُ إلَّا فيما يؤكل لحمُه خاصةً عمومُ: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96].
          والصَّيد: الاصطياد، وهو يقع على كلِّ ما يؤكل لحمُه وما لا يؤكل، وليس المعتبَرُ في وجوب الجزاء كونَ المقتول مأكولًا؛ لأنَّ الحمارَ المتولَّدَ عنِ الوحشيِّ والأهليِّ لا يؤكل، وفي قتله الجزاءُ على المحرِم، والمخالفُ لا يسلِّم ذَلِكَ.
          ثانيها: تسميته _◙_ الوزغَ فُوَيْسِقًا ما يدلُّ على عقرِها كما سمَّى العَقُورات كلَّها فواسقَ، قال مالكٌ: ولا يَقتل المحرِم قردًا ولا خنزيرًا ولا الحيَّةَ الصَّغيرة ولا صغارَ السِّباع، وقال الشَّافعيُّ: ما يجوز للمحرِم قتلُه فصغارُه وكبارُه سواءٌ، لا شيءَ عليه في قتلها، وقال مالكٌ في «الموطَّأ»: ولا يقتُل المحرِم ما ضَرَّ مِنَ الطَّير إلَّا ما سمَّى رسولُ الله _صلعم_: (الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ)، فإنْ قتل غيرهما مِنَ الطَّير فَداه.
          ثالثها: اختلف المدنيُّون في الزُّنبور، كمَا قال إسماعيلُ، فشبَّهه بعضُهم بالحيَّة والعقرب فإنْ عرَض لإنسانٍ فدفَعَه عنْ نفسه لم يكنْ عليه فيه شيءٌ، وكانَ عمرُ يأمر بقتله كما سلف.
          وقال أحمدُ وعطاءٌ: لا جزاءَ فيه، وقال بعضهم: يُطعِم شيئًا، قال إسماعيلُ: وإنَّما لمْ يدخل أولادُ الكلب العَقور في حكمه لأنَّهنَّ لا يعقِرن في صغَرِهِنَّ ولا فِعل لهنَّ.
          رابعها: الجُناح: الإثم، فنفاه بقوله: (لَا جُنَاحَ) و(لاَ حَرَجَ).