التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام

          ░18▒ بَابُ: دُخُوْلِ الحَرَمِ، وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ.
          وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ حَلالًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ _صلعم_ بِالإِهْلَالِ لِمَنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُر الْحَطَّابِينَ وَغَيْرَهمْ.
          1845- ثمَّ ذكرَ حديثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وقَّت النَّبِيُّ _صلعم_ لأَهْلِ المَدِيْنَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ...) الحديثَ، وتقدَّم أوائلَ الحجِّ.
          1846- وحديثَ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، فَقَالَ: اقْتُلُوهُ).
          الشَّرح: أثَر ابنِ عُمر رواه ابنُ أبي شَيبةَ، عن عليٍّ بنِ مُسْهِرٍ، عنْ عبيدِ الله، عنْ نافعٍ، عنْ عبدِ الله، ((وَبَلَغَهُ بِقَدِيدٍ أَنَّ جَيْشًا مِنْ جُيُوشِ الْفِتْنَةِ دَخَلُوا الْمَدِينَةَ، فَكَرِهَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلَهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ))، ورواه البَيْهَقيُّ مِنْ حديث مالكٍ عنْ نافعٍ، وحديث أنسٍ أخرجه مسلمٌ والأربعة، وَعُدَّ مِنْ أفراد مالكٍ، تفرَّد بقوله: ((وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ)) كما تفرَّد بحديث: ((الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ)) وبحديث: ((السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ)).
          قال الدَّارقطنيُّ: قد أوردتُ أحاديثَ مَنْ رواه عنْ مالكٍ في جزءٍ مفردٍ وهو نحوٌ مِنْ مئةٍ وعشرين رجلًا أو أكثرَ، مِنْهم السُّفيانان، وابنُ جُريجٍ والأوزاعيُّ.
          وقال ابن عبد البَرِّ: هذا حديثٌ تفرَّد به مالكٌ، ولا يُحفظ عنْ غيره، ولمْ يروِهِ عنِ ابنِ شهابٍ سواه مِنْ طريقٍ صحيحٍ، واحتاج إليه فيه جماعةٌ مِنَ الأئمَّة يطولُ ذِكرهم، وقد رُوِيَ عن ابن أخي ابنِ شِهابٍ عنْ عمِّه عنْ أنسٍ ولا يكاد يصحُّ، وَرُوِيَ مِنْ غير هذا الوجه، ولا يُثبِت أهلُ العلم فيه إسنادَ غيرِ حديث مالكٍ، ورواه أيضًا أبو أُويسٍ والأَوزاعيُّ عنِ الزُّهريِّ، وروى محمَّدُ بنُ سُلَيمِ بنِ الوليد العَسْقلانيُّ، عنْ محمَّدِ بنِ أبي السَّرِيِّ عنْ عبد الرَّزَّاق عنْ مالكٍ عنِ ابنِ شهابٍ، عنْ أنسٍ: ((دَخَلَ النَّبِيُّ _صلعم_ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ))، ومحمَّدُ بنُ سُلَيمٍ لمْ يكنْ ممَّن يعتمد عليه، وتابعه على ذَلِكَ بهذا الإسناد الوليدُ بنُ مسلمٍ ويحيى الوُحاظيُّ، ومع هذا فإنَّه لا يُحفظ عنْ مالكٍ في هذا إلَّا المِغْفَر.
          قال أبو عمرَ: ورُوِيَ مِنْ طريق أحمدَ بنِ إسماعيلَ عنْ مالكٍ عنْ أبي الزُّبير عنْ جابرٍ: ((أَنَّهُ _◙_ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ)) ولمْ يقلْ: عام الفتح، وهو محفوظٌ مِنْ حديث جابرٍ، زاد مسلمٌ في «صحيحه»: ((بِغَيْرِ إِحْرَامٍ)).
          قال: وروى جماعةٌ مِنْهم بشرُ بنُ عمرَ الزَّهرانيُّ ومنصورُ بنُ سَلَمَةَ الخُزاعيُّ حديث المِغْفَر فقالا: ((مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ)) ومنصورٌ وبشرٌ ثقتان، وتابعهما على ذَلِكَ جماعةٌ ليسوا هناك، وكذا رواه أبو عُبيدِ بنُ سلَّامٍ عنِ ابنِ بُكَيْرٍ عنْ مالكٍ ورواه رَوْحُ بنُ عُبادةَ عنْ مالكٍ بإسناده هذا، وفيه زيادة: ((وَطَافَ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ وَلَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ)).
          ورواه عبدُ الله بنُ جعفرٍ المَدينيُّ عنْ مالكٍ عن الزُّهْريِّ عنْ أنسٍ قال: ((دَخَلَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ يوم الفتح مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِمِحْجَنٍ))، وهذا لمْ يقله عنْ مالكٍ غيرُ عبدِ الله هذا.
          وروى داودُ بنُ الزِّبْرقانِ عنْ مَعْمَرٍ ومالكٍ جميعًا عنِ ابنِ شهابٍ عنْ أنسٍ: ((أَنَّه _◙_ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ وَلَيْسَ بِصَائِمٍ))، وهذا اللَّفظ ليس بمحفوظٍ بهذا الإسناد لمالكٍ إلَّا مِنْ هذا الوجه.
          وقد روى سويدُ بنُ سعيدٍ، عنْ مالكٍ، عنِ ابنِ شهابٍ، عنْ أنسٍ: ((أَنَّهُ _◙_ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ غَيْرَ مُحْرِمٍ))، وتابعه على ذَلِكَ عن مالكٍ إبراهيمُ بنُ عليٍّ الغَزِيُّ، وهذا لا يُعرف هكذا إلَّا بهما، وإنَّما هو في «الموطَّأ» عند جماعة الرُّواة مِنْ قول ابنِ شهابٍ لمْ يرفعه إلى أنسٍ.
          وقال الحاكم في «إكليله»: اختلفتِ الرِّوايات في لُبسه _صلعم_ العِمامة أو المِغْفَر يوم الفتح، ولم يختلفوا أنَّه دخلها وهو حلالٌ.
          قال: وقال بعض النَّاس: العِمامة والمِغْفَر على الرَّأس، ويؤيِّد ذَلِكَ حديثُ جابرٍ _يعني السَّالفَ_ قال: وهو وإنْ صحَّحه مسلمٌ وحده فالأوَّل _يعني حديث أنسٍ_ مجمَعٌ على صحَّته، والدَّليل على أنَّ المِغفرَ غيرُ العِمامة قوله: ((مِنْ حَدِيْدٍ)) فبان بهذا أنَّ حديثَ مِنْ حديدٍ أثبتُ مِنَ العِمامة السَّوداء لأنَّ راويَها أبو الزُّبير، وقال عمرو بنُ دينارٍ: أبو الزُّبير يحتاج إلى دِعامة، وقد رُوِيَ عنْ عمرِو بنِ حُرَيثٍ ومَزِيدةَ وعَنْبَسةَ صاحبِ الألواح عنْ عبيدِ الله بنِ أبي بكرٍ، عنْ أنسٍ، عنْ رسول الله _صلعم_: ((لَبِسَ العِمامة السَّوداء))، ولا يصحُّ مِنْها، وإنَّما لَبِسَ البياض، وأَمَرَ به.
          إذا تقرَّر ذَلِكَ فالكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: (المِغْفَرُ) بكسر الميم، وكذا المِغْفَرَةُ والغِفَارة: زَرْدٌ يُنسج مِنَ الدُّروع على قدر الرَّأس تُلبَس تحت القَلَنْسُوة، وقيل: هو رفرفُ البيضة، وقيل: هو حلَقٌ يتقنَّع به المتسلِّحُ، وقال ابنُ عبد البرِّ: هو ما غطَّى الرَّأسَ مِنَ السِّلاح كالبيضة وشبهها مِنْ حديدٍ كان أو غيرِه، وذكر ابنُ طاهرٍ الدَّانيُّ في «أطراف الموطَّأ»: لعلَّ المِغْفَرَ كان تحت العِمامة، وكذا قاله ابنُ عبد البرِّ.
          ثانيها: نزعُه المِغفرَ عند انقياد أهلِ مكَّة ولُبسُ العِمامة، ويؤيِّد هذا / خطبتُه والعِمامةُ عليه لأنَّ الخطبة إنَّما كانت عند باب الكعبة بعد تمام الفتح.
          ثالثها: (ابْنَ خَطَلٍ) اسمُه: هلالٌ، أو عبدُ الله وهلالٌ أخوه _ويُقال لهما الخَطَلان_ أو عبدُ العُزَّى، أو غالبُ بنُ عبدِ الله بنِ عبدِ مَنافٍ، وقال الدِّمياطيُّ: اسمه هلالٌ، وخَطَلٌ لقبُ جدِّه عبدِ مَنافٍ، وقال الزُّبير بنُ بكَّارٍ: اسمه هلالُ بنُ عبدِ الله بنِ عبدِ مَنافٍ، وعبدُ الله هو الَّذي يُقال له: خَطَلٌ، ويُقال ذَلِكَ لأخيه عبدِ العُزَّى بنِ عبدِ منافٍ، وهما الخطلان كما سلف، ومِنْ بني تيمٍ: الأدرمُ بنُ غالبٍ، وقيل له ذَلِكَ لأنَّ أحدَ لحيَيْهِ كان أنقصَ مِنَ الآخر، وقال ابنُ قتيبةَ: بنو تيم الأدرم مِنْ أعراب قريشٍ، وليس بمكَّة مِنْهم أحدٌ، وعبدُ العُزَّى عمُّ ابنِ خطلٍ يُقال له أيضًا: خَطَلٌ، وكان يُقال لابنِ خَطَلٍ: ذا القلبين، وفيه نزل قوله _تعالى _: {مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4].
          قال أبو عمر: لأنَّه كان أسلمَ، وبعثه رسول الله _صلعم_ مصدِّقًا، وبعث معه رجلًا مِنَ الأنصار، وأمَّر عليهم الأنصاريَّ، فلمَّا كان ببعض الطَّريق وثب على الأنصاريِّ فقتلَه وذهب بمالِه، وعنِ ابنِ إسحاقَ: كان له مولًى يخدمُه، وكان أيضًا المولى مسلمًا فنزل ابنُ خَطَلٍ منزلًا، وأمر المولى أنْ يذبح له تيسًا ويصنعَ له طعامًا ونام، فاستيقظ ولمْ يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتلَه، ثمَّ ارتدَّ مشركًا، واتَّخذ قَينتين تغنِّيان بهجاء سيِّدنا رسول الله صلعم.
          وفي «مجالس الجوهريِّ» أنَّه كان يكتب الوحي للنَّبيِّ _صلعم_ فكان إذا نزل {غَفُورٌ رَحِيْمٌ} كتب: رحيمٌ غفورٌ، وإذا نزل {سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} كتب: عليمٌ سميعٌ، أخرجه مِنْ طريق الضَّحَّاك عنِ النَّزَّال بنِ سَبْرةَ، عنْ عليٍّ، قتلَه أبو بَرْزةَ نَضْلةُ بنُ عُبَيْدٍ الأَسْلَميُّ، أو سعيدُ بنُ حُرَيْثٍ المخزوميُّ، أو الزُّبيرُ بنُ العوَّامِ.
          قال أبو عمر: وذُكر أنَّه استبق إليه سعيدُ بنُ حُرَيْثٍ وعمَّارُ بنُ ياسرٍ فسبق سعيدٌ عمَّارًا، فَقُتِلَ بين المَقام وزمزمَ، وفي رواية يونسَ عنِ ابنِ إسحاقَ: لَمَّا قُتِل قال رسول الله _صلعم_: ((لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا)) قلتُ: هذا في غيره، وهو الأكثر.
          رابعها: فيه _كما نبَّه عليه السُّهيليُّ_ دِلالةٌ أنَّ الكعبةَ المشرَّفةَ لا تُعيذ عاصيًا، ولا تمنع مِنْ إقامة حدٍّ واجبٍ، وأنَّ معنى قوله _تعالى_: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] إنَّما معناه الخبر عن تعظيم حرمتها في الجاهليَّة نعمةً مِنَ الله على أهل مكَّة، كما قال _تعالى_: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}الآية [المائدة:97]، فكان ذَلِكَ قِوام النَّاس، ومصلحةً لذرِّيَّة إسماعيلَ قُطَّانِ الحرم، وإجابةً لدعوة إبراهيمَ حيث يقول: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37].
          خامسها: فيه كما قال ابنُ عبد البرِّ: دخول مكَّة بغير إحرامٍ وبالسِّلاح الظَّاهر فيها، ولكنَّه عند جمهور العلماء منسوخٌ ومخصوصٌ بقوله: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) فهذا إخبارٌ أنَّ اللهَ _تعالى_ حرَّمها. وقال في كتاب «الأجوبة الموعبة عَنِ المسائل المستغرَبة على صحيح البخاريِّ»: وما حرَّم اللهُ فلا سبيل إلى استحلاله إلَّا بإذن مِنَ الله، يمحو الله ما يشاء ويثبِت، يُحلُّ ويحرِّم ابتلاءً واختبارًا لا بَداءً، كما قالته اليهود، ولكنْ لمصالح العباد واختبارِهم ليبلوَهم أيُّهم أحسنُ عملًا، وأيُّهم ألزمُ لِما أمر به ونهى عنه لتقعَ المجازاة على الأعمال، وقد أَذِن لرسوله في استحلالها، ثمَّ أَخبر على لسانه أنَّها عادت إلى حالها، وقد روى ابنُ عمر وابنُ عبَّاسٍ وأبو بَكْرةَ وعمرو بنُ الأحْوَصِ وجابرٌ وغيرُهم بألفاظٍ متقاربةٍ ومعنًى واحدٍ أنَّ رسول الله _صلعم_ خطبهم في حَجَّة الوداع فقال: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
          وفي قوله: ((وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ)) أيضًا دليلٌ واضحٌ على أنَّ قوله: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا)) يعني المدينة، ليس على ظاهره، وهو حديثٌ رواه مالكٌ، عنْ عمرِو بنِ أبي عمرٍو عنْ أنسٍ، وعمرٌو ليس بالقويِّ عند بعضهم، قال: ومعناه عندي _والله أعلم_ أنَّ إبراهيمَ أعلنَ حُرْمتها، وعُلِم أنَّها حرامٌ بإخباره، فكأنَّه حرَّمها إذْ لمْ يُعرف تحريمها إلَّا في زمانه على لسانه، كما أضاف الله _تعالى_ تَوَفِّيَ الأنفُسِ مرَّةً إليه ومرَّةً إلى مَلَك الموت بقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11]، ومرَّةً إلى أعوانه بقوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النحل:28]، وجائزٌ أنْ يُضاف الشَّيء إلى مَنْ له فيه سببٌ، ويحتمل أنْ يكون إبراهيمُ مَنع مِنَ الصَّيد بمكَّة والقتالِ فيها وشبهِ ذَلِكَ ((وإنِّي أَمنع مثلَ ذلك بالمدينة))، والتَّحريم في كلام العرب: المنع، قال _تعالى_: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12] أي: منعناه قَبول المَراضع، وحديث مالكٍ عنْ سُهَيْلٍ عنْ أبيه، عنْ أبي هريرةَ يرفعُه: ((اللهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ دَعَاكَ لِمَكَّةَ))، وهذا أولى مِنْ رواية: ((حَرَّمَ مَكَّةَ)).
          وقوله: ((أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)) لمْ يُرِد السَّاعة المعروفة، والمراد: القليلُ مِنَ الوقت والزَّمان، وأنَّه كان بعضَ النَّهار ولمْ تكن يومًا تامًّا وليلةً، ((وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ)) يدلُّ على أنَّ السَّاعة الَّتي أُحلَّ له فيها القتالُ لم تكن أكثرَ مِنْ يومٍ.
          وكان ابنُ شهابٍ يقول: لا بأس أنْ يَدخل مكَّة بغير إحرامٍ، وخالفه في ذَلِكَ أكثرُ العلماء، ولمْ يتابعْه على ذَلِكَ إلَّا الحسنُ البصريُّ، قلتُ: وأبو مُصْعَبٍ، وإليه ذهب داودُ وأصحابُه، وَرُوِيَ عنِ الشَّافعيِّ مثلُ ذَلِكَ، والمشهور عنه كقول الجماعة أبي حنيفةَ وأصحابِه، قالوا: فإنْ دخَلها غيرَ محرمٍ فعليه حَجَّةٌ أو عمرةٌ، وهو قول عطاءٍ وابنِ حيٍّ.
          وقتْلُ ابنِ خَطَلٍ لا يخلو مِنْ أحد وجهين: إمَّا أنْ يكون ذَلِكَ كان في الوقت الَّذي أُحلَّت له فيه مكَّةُ، أو يكون _كما قاله جماعةٌ مِنَ العلماء_ / أنَّ الحرَمَ لا يُجير مَنْ وَقع عليه القتلُ، وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ وأبي يوسفَ، وقال أبو حنيفةَ: إذا وجب عليه قِصاصٌ أو حدٌّ فدخل الحرم لمْ يُقتصَّ مِنْه في النَّفس، ويُقام عليه فيما دونه ممَّا سوى ذَلِكَ حَتَّى يخرج مِنَ الحرم، وقال زُفَرُ: فإنْ قتَل في الحرم أو زنا فيه رُجِم، وقد سلف ذَلِكَ [خ¦1832]، وعنْ أبي يوسفَ: يُخرَج مِنَ الحرم فيُقتل، وكذا في الرَّجم.
          واختلفوا في تغليظ الدِّية على مَنْ قتل في الحرم، وأكثرهم على أنَّه في الحِلِّ والحرَم سواءٌ، وعن سالمٍ: مَنْ قَتل خطأً في الحرم زِيدَ عليه في الدِّية ثلثُ الدِّية، وهو قولُ عثمانَ بنِ عفَّانَ، وخالفه في ذَلِكَ عليٌّ.
          وقال ابنُ القصَّار: اختَلف قول مالكٍ والشَّافعيِّ في جواز دخول مكَّة بغير إحرامٍ لِمَنْ لمْ يردِ الحجَّ والعمرة، فقالا مرَّةً: لا يجوز دخولُها إلَّا به لاختصاصها ومباينتِها جميعَ البلدان إلَّا الْحَطَّابِينَ ومَنْ قرُبَ منها مثل جدَّة والطَّائف وعُسْفان لكثرة تردُّدِهم إليها، وبه قال أبو حنيفةَ واللَّيث، وعلى هذا فلا دمَ عليه، نصَّ عليه في «المدوَّنة»، ووافقه القاضي في «المعونة»، وخالف في تلقينه والخلافُ في مذهبنا أيضًا، وقالا مرَّةً أخرى: دخولُها به استحبابٌ لا واجبٌ.
          قال ابنُ بطَّالٍ: وإليه ذهب البخاريُّ محتجًّا بقوله: (مِمَّنْ أَرَادَ الحجَّ وَالعُمْرةَ) فدلَّ أنْ لمْ يردهما فليس ميقاتًا له، واستدلَّ بحديث الباب: ((وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ))، وبه احتجَّ ابنُ شهابٍ، ولمْ يره خصوصًا به _◙_ وأجاز دخولَها بغير إحرامٍ، وهو قول أهل الظَّاهر، وقال الطَّحاويُّ: قول أبي حنيفةَ وأصحابه في أنَّ مَنْ كان منزلُه في بعض المواقيت أو دونها إلى مكَّة، فله أنْ يدخلَ مكَّةَ بغيرِ إحرامٍ، ومَنْ كان منزلُه قبل المواقيت لمْ يدخل مكَّة إلَّا بإحرامٍ، وأخذوا في ذَلِكَ بما رُوِيَ عنِ ابنِ عمر أنَّه خرج مِنْ مكَّة وهو يريد المدينة، فلمَّا كان قريبًا مِنْ قُدَيدٍ بلغه خبرٌ مِنَ المدينة فرجع فدخل حلالًا، وقال آخرون: حُكْمُ أهل المواقيت حُكْمُ مَنْ قبْلها.
          قال الطَّحاويُّ: ووجدنا الآثارَ تدلُّ على أنَّ ذَلِكَ مِنْ خواصِّه بقوله: ((فَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي)) وقد عادت حرامًا إلى يوم القيامة فلا يجوز لأحدٍ أنْ يدخلَها إلَّا بإحرامٍ، وهو قول ابنِ عبَّاسٍ والقاسمِ والحسنِ البصريِّ.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: الصَّحيح في معنى قوله: ((لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي)) يريد مثل المعنى الَّذي حلَّ لرسول الله _صلعم_ وهو محاربة أهلِها وقتالهم، وردُّهم عنْ دينهم على ما تقدَّم في باب: لا يحلُّ القتال بمكَّة، عنِ الطَّبريِّ، وهو أحسنُ مِنْ قول الطَّحاويِّ: إنَّه خاصٌّ به.
          واحتجَّ مَنْ أجاز دخولها بغير إحرامٍ أنَّ فرض الحجِّ مرَّةٌ في الدَّهر وكذا العمرة، فمَنْ أوجبَ على الدَّاخل إحرامًا فقد أوجب عليه غير ما أوجب الله.
          سادسها: قال ابنُ بطَّالٍ: في قتله _◙_ لابنِ خَطَلٍ يوم الفتح حُجَّةٌ لِمَنْ قال: إنَّ مكَّة فُتحت عَنْوةً، وهو قول مالكٍ وأبي حنيفةَ وجماعةِ المتقدِّمين والمتأخِّرين، وقال الشَّافعيُّ وحدَه: فُتحت صُلحًا.
          وفائدةُ الخلاف في هذه المسألة ما ذهب إليه مالكٌ والكوفيُّون أنَّ الغانمِين لا يملكون الغنائم ملكًا مستقرًّا بنفس الغنيمة، وأنَّه يجوز للإمام أنْ يمُنَّ ويعفوَ عنْ جملة الغنائم، ولا خلاف بينهم أنَّه _◙_ مَنَّ على أهل مكَّة وعفا عنْ أموالهم كلِّها.
          سابعها: استدلَّ به المالكيُّون، أنَّ مَنْ سَبَّ الشَّارع يُقتل ولا يُستتاب كما فُعل بابنِ خَطَلٍ، فإنَّه كان يسبُّه ويهجوه، وقد عفا عنْ غيره ذَلِكَ اليومَ ممَّنْ كان يسُبُّه، فلمْ ينتفعْ باستعاذتِه بالبيت، ولا بالتَّعلُّقِ بأستار الكعبة، فدلَّ ذَلِكَ على العَنْوة، وعلى أنَّ الحدود تُقام بمكَّة على مَنْ وجبت عليهم، ولا يعارضه قوله _◙_: ((مَنْ أَغْلَقَ بَابهُ فَهُوَ آمِنٌ)) إلى آخرِه لأنَّه _◙_ أمَّن في ذَلِكَ اليومِ النَّاسَ إلَّا أربعةَ نفرٍ، وقال: ((اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ)): عِكْرمةَ بنَ أبي جهلٍ وعبدَ الله بنَ خَطَلٍ ومَقِيسَ بنَ صُبابةَ وعبدَ الله بنَ سعدِ بنِ أبي سَرْحٍ وقينتين كانتا تغنِّيان بهجائه، فسأل عثمانُ في عبدِ الله، وسيأتي في الجهاد في باب: قتل الأسير والصَّبر زيادةٌ في ذَلِكَ _إنْ شاء الله تعالى_ [خ¦3044] وكذا في فتح مكَّة، عند الكلام على حديث حاطبٍ في الظَّعينة [خ¦4274].