التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا يعضد شجر الحرم

          ░8▒ بَابٌ: لاَ يُعْضَدُ شَجَرُ الحَرَمِ.
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_: (لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ).
          1832- ثمَّ أسند حديثَ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ العَدَوِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، فذكره إلى قوله: (وَلاَ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً). /
          الشَّرح: تعليقُ ابنِ عبَّاسٍ ذكرَه بعد قليلٍ مسندًا، وحديثُ أبي شُرَيحٍ أخرجه مسلمٌ أيضًا، ووقع في «سيرة ابنِ إسحاقَ»: حدَّثَنَا سعيدُ بنُ أبي سعيدٍ عنْ أبي شُريحٍ قال: لَمَّا قَدِم عمرو بنُ الزُّبير مكَّةَ قام إليه أبو شُريحٍ، فذكره، فردَّ عليه ابنُ الزُّبير: (فَأَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ)، وكذا ذكرَه الواقديُّ عنْ رَباحِ بنِ مسلمٍ، عنْ أبيه قال: بُعِثَ إلى عبد الله بنِ الزُّبير عمرٌو وأخوه، فقام أبو شُريحٍ إليه فقال له.. الحديث. ولا التفاتَ إلى ردِّ السُّهيليِّ له بأنَّه وهمٌ مِن ابنِ هشامٍ، فهذا ابنُ إسحاقَ هو الَّذي ذكره، وسنده صحيحٌ، وقد أوضحتُ شرحه في «شرح العمدة» فليراجَع منه، ونذكر هنا عيونًا:
          أحدها: (عَمْرٌو) هذا هو ابنُ سعيدِ بنِ العاصِ أبو أميَّة المعروف بالأشدق، لَطيمُ الشَّيطانِ الأفقمُ أيضًا، ليست له صحبةٌ، وعُرف بالأشدقِ لأنَّه صَعِد المنبرَ فبالغ في شَتم عليٍّ ☺ فأُصيب بِلَقْوةٍ، ولَّاه يزيدُ بنُ معاويةَ المدينة، وكان أحبَّ النَّاس إلى أهل الشَّام، وكانوا يسمعون له ويطيعونه، وكَتب إليه يزيدُ أنْ يوجِّهَ إلى عبدِ الله بنِ الزُّبير جيشًا فوجَّهه، واستعمل عليهم عمرَو بنَ الزُّبير بنِ العوَّام.
          وأبو شريحٍ اسمه خُويلدُ بنُ عمرٍو، وَقِيْلَ عكسُه، وَقِيْلَ غيرُ ذَلِكَ، حمل لواء قومِه يوم الفتح وكان مِنَ العقلاء، وفي الصَّحابة مَنْ كُنْيتُه كذلك ثلاثةٌ غيرُه.
          ثانيها: معنى (لاَ يَعْضِدَ) لا يقطع بالمِعْضَد، وهو سيفٌ يُمتهَن في قطع الشَّجر، وقيل: هو حديدٌ، والعَضَدُ _بالفتح_ ما تكسَّر مِنَ الشَّجر أو قُطع، و(الخَـُرْبةُ) البَلِيَّةُ بفتح الخاء المعجمة وضمِّها وبعد الرَّاء باءٌ موحَّدةٌ، كما وقع في بعض نسخ البخاريِّ، ويُقال: العورة أو الزَّلَّة، وأصله مِنْ سرقة الإبل.
          ثالثها: لا يجوز قطع أغصان شجرِ مكَّة الَّتي أنشأها الله فيها ممَّا لا صُنعَ فيه لبني آدم، وإذا لم يجُز قطعُ أغصانها فقطعُ شجرِها أولى بالنَّهي، وقام الإجماع _كما قال ابنُ المنذِر_ على تحريم قطع شجر الحرم، واختلفوا فيما يجب على قاطعها، فذهب مالكٌ: لا شيءَ عليه غيرَ الاستغفار، وهو مذهب عطاءٍ، وبه قال أبو ثورٍ، وذكر الطَّبريُّ عنْ عمرَ مثلَ معناه، وقال الشَّافعيُّ: عليه الجزاء في الجميع المحرِمُ في ذَلكَ والحلالُ سواءٌ، في الشَّجرة الكبيرةِ بقرةٌ وفي الصَّغيرة شاةٌ، وفي الخشب وما أشبهه قيمتُه ما بلغت، دمًا كان أو طعامًا.
          وحكى بعضُ أصحاب الشَّافعيِّ أنَّ مذهبه كمذهب أبي حنيفةَ فيما أنبتَه الآدميُّ، ذكرَه ابنُ القصَّار، وهو قول صاحبيه أيضًا إنْ قطعَ ما أنبته الآدميُّ فلا شيء عليه، وإنْ قطع ما أنبته الله _تعالى_ كان عليه الجزاء حلالًا كان أو محرِمًا، فإنْ بلغ هديًا كان هديًا وإلَّا قُوِّم طعامًا فأطعم كلَّ مسكينٍ نصفَ صاعٍ لا جَرَمَ، حكى بعضُهم عن الكوفيِّين أنَّ فيها قيمتَها، والمحرِمُ والحلالُ فيه سواءٌ.
          قال ابنُ المنذِر: ليس في ذَلكَ دِلالةٌ مِنْ كتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا إجماعٍ، وأقولُ كمَا قال مالكٌ، واحتجَّ الموجِبُ بالحديث: (لاَ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً)، وهو نهيُ تحريمٍ فيجب فيه الجزاءُ كالصَّيد، ويُجاب بأنَّ النَّهي عنْ قطعِه لا يدلُّ على وجوب الجزاءِ كالنَّهي عنْ تنفير الصَّيد والإشارةِ والمعاوَنةِ عليه.
          فقد رُوِيَ أنَّ عمرَ بنَ الخطَّاب رأى رجلًا يقطعُ مِنْ شجر الحرم، فسأله لمَ تقطعُه؟ فقال: لا نفقةَ معي، فأعطاه نفقةً، ولمْ يوجِبْ عليه، ولو كان كالصَّيد لوجب على المحرِم إذا قطعها في حِلٍّ أو حرمٍ الجزاءُ كما قال في الصَّيد، وأجمع العلماءُ على إباحة أخذِ كلِّ ما نبَّته النَّاسُ في الحرم مِنَ البَقُول والزُّروع والرَّياحين وغيرها، فوجبَ أنْ يكون ما يغرسه النَّاسُ مِنَ النَّخيل والشَّجر يباح قطعُهُ لأنَّ ذَلِكَ بمنزلة الزَّرع الَّذي يزرعونه فقطعُه جائزٌ، وما يجوز قطعه فمحالٌ أنْ يكون فيه جزاءٌ.
          فإنْ قيل: فأَوجِبِ الجزاءَ على ما أنبته الله تعالى، قيل: لا أجد عليه دِلالةً، فوجب استواؤهما في السُّقوط. واختلفوا في أخذ السِّواك مِنْ شجر الحرم، فرُوِّينا عنْ مجاهدٍ وعطاءٍ وعمرِو بنِ دينارٍ أنَّهم رخصوا في ذَلِكَ، وحكى أبو ثورٍ ذَلِكَ عنِ الشَّافعيِّ، وكان عطاءٌ يرخِّص في أخذ ورق السَّنا لا يُنزع مِنْ أصله، ورخَّص فيه عمرو بنُ دينارٍ.
          رابعها: قوله _◙_: ((فَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا)) اختلف العلماء فيمَنْ أصاب حدًّا في غير الحرم، مِنْ قتلٍ أو زنًا أو سرقةٍ ثمَّ لجأ إلى الحرم هل تنفعُه استعاذتُه؟
          فقالت طائفةٌ: لا يُجَالَس ولا يُبَايع ولا يُكلَّم ولا يُؤْوَى حتَّى يَخرج مِنْه، فيُؤخذ بالواجب لله تعالى، وإنْ أتى حدًّا في الحرم أُقيم فيه، وَرُوِيَ ذَلكَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، وهو قول عُبيدِ بنُ عميرٍ وعطاءٍ، والشَّعبيِّ والحكمِ، وعلَّةُ ذَلكَ قوله _تعالى_: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] قالوا: فجعل الله حَرَمهُ آمنًا لِمَنْ دخله، فداخِلُهُ آمنٌ مِنْ كلِّ شيءٍ وجب عليه قبلَ دخولِه حتَّى يَخرج مِنْه، وأمَّا مَنْ كان فيه فأتى فيه حدًّا فالواجبُ على السُّلطان أخذُه به لأنَّه ليس ممَّنْ دخله مِنْ غيره مستجيرًا به، وإنَّما جعله الله أمَنَةً لِمَنْ دخله مِنْ غيره، قاله الطَّبريُّ، قال: وعِلَّتُهم أنَّه لا يبايَع ولا يكلَّم حَتَّى يَخرج مِنَ الحرم، فإنَّه لَمَّا كان غيرَ محظورٍ عليهم كان لهم فعله ليكون سببًا إلى خروجه وأخذ الحدِّ مِنْه.
          وقال آخرون: لا يُخْرَج مَنْ لجأ إلى الحرم حَتَّى يَخْرُج مِنْه، فيُقام عليه الحدُّ، ولمْ يحظروا مبايعته ولا مجالسته، رُوِيَ ذَلِكَ عنِ ابنِ عمرَ قالَ: لو وجدتُ قاتل عمرَ في الحرم ما هِجتُه، وعلَّةُ ذَلِكَ أنَّ الله _تعالى_ جعله آمنًا لِمَنْ دخله، ومَنْ كان خائفًا وقوعَ الاحتيال عليه فإنَّه غيرُ آمنٍ، فغير جائز إخافتُه بالمعاني الَّذي يضطرُّه إلى الخروج مِنْه لأخذه بالعقوبة الَّتي هرب مِنْ أجلها.
          وقال آخرون: مَنْ أتى في الحَرم بما يجب عليه الحدُّ فإنَّه يُقام عليه ذَلِكَ فيه، ومَنْ أتاه في غيره فدخله مستجيرًا به فإنَّه يُخرَج مِنْه، ويُقام عليه الحدُّ، / رُوِيَ ذَلِكَ عنِ ابنِ الزُّبير والحسنِ ومجاهدٍ وعطاءٍ وحمَّادٍ، وعلَّتُه ما سلف مِنْ أنَّه أَمَنةٌ مِنْ أنْ يعاقَب فيه، ولمْ يجْعله أمَنَةً مِنَ الحدِّ الواجب عليه.
          وذَكر الطَّحاويُّ عنْ أبي يُوسفَ قال: الحرم لا يجير ظالِمًا، وأنَّ مَنْ لجأ إليه أُقيم عليه الحدُّ الواجب عليه قبل ذَلكَ، ويُشبه أنْ يكون هذا مذهبَ عمرِو بنِ سعيدٍ لقوله: إنَّ الحرم لا يُعيذ عاصيًا ولا فارًّا، فلمْ ينكِر عليه أبو شُريحٍ، وقالَ قَتادةُ في قوله _تعالى_: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97]: كان في الجاهليَّة، فأمَّا اليوم فلو سرق في الحرم قُطع، ولو قَتَلَ فيه قُتِل، ولو قُدِر فيه على المشركين قُتلوا، ولا يمنع الحرم مِنْ إقامة الحدود عند مالكٍ، واحتجَّ بعض أصحابه بأنَّه _◙_ قتل ابنَ خَطَلٍ وهو متعلِّقٌ بأستار الكعبة، ولمْ تُعِذْهُ الكعبة مِنَ القتل، وهذا القول أولى بالصَّواب لأنَّ الله _تعالى_ أمر بقطع السَّارق وجلد الزَّاني وأوجبَ القِصاص أمرًا مطلقًا ولمْ يخصَّ به مكانًا دون مكان، فإقامة الحدود تجب في كلِّ مكانٍ على ظاهر الكِتاب، وممَّا يشهد لذلك أمرُ الشَّارع بقتل الفواسق المؤذية في الحرم، فقَام الدَّليلُ مِنْ هذا أنَّ كلَّ فاسقٍ استعاذ بالحرم أنَّه يُقتل بجريرته ويُؤخذ بقِصاص جُرمه.
          قال إسماعيلُ بنُ إسحاقَ: وقد أنزل الله _تعالى_ الحدود والأحكام على العموم بين النَّاس، فَلا يجوز أنْ يُترك حكمُ الله _تعالى_ في حرمٍ ولا غيره لأنَّ الَّذي حَرَّم الحَرَمَ هو الَّذي حرَّم معاصيَه أنْ تُرتكب وأوجب فيها مِنَ الأحكام ما أوجب، وسيكون لنا عودةٌ إلى ذلك في الدِّيات [خ¦6880].
          وذكر الطَّحاويُّ عنْ أبي حنيفةَ وزُفرَ وأبي يوسفَ ومحمَّدٍ كقول ابنِ عبَّاسٍ، إلَّا أنَّهم يجعلون ذلك أمانًا في كلِّ حدٍّ يأتي على النَّفس مِنَ الحدود مثل أنْ يزنيَ وهو محصنٌ، أو يرتدَّ، أو يقتلَ عمدًا، أو يقطعَ طريقًا فيجبَ عليه القتل فيلجأَ إلى الحرم فيدخلَه، ولا يجعلون ذَلِك على الحدود الَّتي لا تأتي على النَّفس كقطع السَّارق، والقوَد في قطع الأيدي وشبْهِها، والتَّعزير الواجب بالأقوال الموجبة للعقوبات، ثمَّ قال: ولا وجه لتفريقهم بين الحدود الَّتي تأتي على النَّفس وبين الَّتي لا تأتي عليها لأنَّ الحَرَم إنْ كان دخوله يؤمِّن مِنَ العقوبات في الأنفس فيُؤمِّن فيما دونها، وإنْ كان لا يُؤمِّن فيما دونها فلا يَأمن بها إلَّا في الأنفس، ولمْ يفرِّق ابنُ عبَّاسٍ بين شيءٍ مِنْ ذَلِكَ، فقوله أولى مِنْ قول أبي حنيفةَ وأصحابه، لا سيَّما ولا نعلم أحدًا مِنَ الصَّحابة خالفه في قوله.
          وقول عمرٍو: (أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ) كانَ عمرٌو فيه بعض التَّحامُل، فتمادى به الطَّمع إلى ردِّ قول أبي شُريحٍ، ولعمري إنَّ أبا شريحٍ كان أعلمَ بتأويل ما لو سمعه عمرٌو وغاب عنه أبو شُريحٍ، فكيف ما سمعه أبو شُريحٍ؟ وقد كان ابنُ أبي مُلَيكةَ حين حاصر الحُصَينُ بنُ نُمَيرٍ ابنَ الزُّبير يخرج إليهم فيعِظهم ويقول لهم: ما استخفَّ قومٌ بحرمة الحَرم إلَّا أهلكهم الله، ويذكر لهم أنَّ جُرْهُمَ هوَّنوا بالحرم فأهلكهم الله، وأصحابَ الفيل أَحرَقوا الكعبة فأتاهم نَغَفٌ فانصرفوا، وتمادى لعمرٍو أمرُه حَتَّى خرج عبدُ الملك إلى مصعبِ بنِ الزُّبير وجرتْ فِتَنٌ.