التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا يحل القتال بمكة

          ░10▒ بَابٌ: لاَ يَحِلُّ القِتَالُ بِمَكَّةَ.
          1834- وَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_: (لاَ يَسْفِكُ بِهَا دَمًا) وهذا سلف مسندًا قريبًا [خ¦1832].
          وذكر حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ _صلعم_ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ: (لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ...) إلى آخره.
          وقد أخرجه مسلمٌ أيضًا، ومعنى (لَا هِجْرَةَ) أي: مِنْ مكَّة لأنَّها صارت دارَ إسلامٍ، أو لا هجرةَ فاضلةٌ، قال الدَّاوديُّ: ذكر حديث صفوانَ بنِ المعطَّلِ أنَّه قيل له بعد الفتح: مَنْ لمْ يهاجرْ هَلَك، وأنَّه أتى رسولَ الله _صلعم_ إلى المدينة ثمَّ قال: ((انْصَرِف إِلَى مَكَّةَ)).
          وقوله: (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) أي إنَّما عليكم ذَلِكَ، لكن كلمة الله هي العليا، ثمَّ بيَّنه بقوله: (وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) يريد أنَّ الجهاد بعد الفتح على الَّذين قال الله _تعالى_: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123] فإذا استنفر الإمامُ النَّاس ليتقوَّى بهم فلينفروا، وكَذلك إنْ خَشِيَ مَنْ يَلي الكفَّار عليهم فيجب على مَنْ يليهم النَّفرُ إليهم.
          وقوله: (هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ / خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) يعني كما حُرِّمت الشُّهورُ الأربعة يوم ذاك، فحرَّم مكَّة يومئذٍ كما حرَّم الشُّهور، وسبق ذَلِكَ في علمه، والقَيْن: الحدَّادُ هنا.
          وفيه وما قبله البيانُ الواضح أنَّ صيدَ الحَرم حرامٌ واصطياده، وذلك لأنَّه _◙_ نهى عنْ تنفيره، فاصطياده أوكدُ في التَّحريم مِنْ تنفيرِه، فإذا نفَّره وأدَّاهُ إلى هلاكه فعليه الجزاء، وإلَّا فلا شيءَ عليه غير التَّوبة، ولا خِلاف في هذا بين الفقهاء، وقد رُوِيَ عنْ عطاءٍ: أنَّه مَنْ أخذ طائرًا في الحرم ثمَّ أرسله، قال: يُطعم شيئًا لِما نفَّره، وقد رُوِيَ عنْ عمر أنَّه لا شيء في التَّنفير.
          وروى شعبةُ عنِ الحكمِ عنْ شيخٍ مِنْ أهل مكَّة: أنَّ حمَامًا كان على البيت فذَرَقَ على يدِ عمرَ فأشار عمرُ بيده، فطار فوقَع على بعض بيوت مكَّة، فجاءت حيَّةٌ فأكلتْه، فحكم عمر على نفسه بشاةٍ، فلمْ يرَ عمرُ لَمَّا نفَّر الحمامةَ عليه شيئًا حَتَّى تَلِفت، ورأى أنَّ تلَفَها كان مِنْ سبب تنفيرِه، وإنَّما استجاز عمرُ تنفيرَه مِنَ الموضع الَّذي كان واقفًا عليه، مع علمه بأنَّ تنفير صيدِه غيرُ جائز، لأنَّه ذَرَقَ على يده فكان له طردُه عنِ الموضع الَّذي يلحقُه أذاه في كونه فيه.
          وكذلك كان عطاءٌ يقول في معنى ذَلكَ، قال ابنُ جُريجٍ: قلتُ لعطاءٍ: كم في بيضةٍ مِنْ بيض الحَمَام؟ قال: نصفُ درهم، ويُحكَّم فيه، فقال له إنسانٌ: بيضةٌ وجدتُها على فراشي أُميطها عنه؟ قال: نعم، قال: وجدتُها في سَهوةٍ أو في مكانٍ في البيت، قال: لا تمطها، فرأى عطاءٌ أنَّ المميط عنْ فراشه بيضةً مِنْ بيض حمام الحرم غير حرجٍ ولا لازمٍ بإماطته إيَّاها شيءٌ، لأنَّ في تركه إيَّاها على فراشه عليه أذًى، ولمْ يرَ جائزًا إماطتها عنِ الموضع الَّذي لا أذى عليه في كونها فيه، فكذلك كان فعلُ عمر في إطارته الحمامة الَّتي ذَرَقَت على يده في الموضع الَّذي كانت واقفةً عليه.
          وقال داودُ: مَن قتل صيدًا في الحرم فلا جزاء عليه، واتَّفق الفقهاء كما قال الطَّبريُّ: أنَّ نهيَه عنِ اختلاء خلاها هو ممَّا ينبت فيه ممَّا أنبتَه الله تعالى، ولمْ يكن للآدميِّ فيه صنعٌ، فأمَّا ما أنبته الآدميُّون فلا بأس باختلائه.
          واختلف السَّلف في الرَّعي في خَلاها: هل هو داخلٌ في هذا النَّهي أم لا؟
          فقال بعضهم: لا، ولا بأسَ به، وَرُوِيَ ذَلِكَ عنْ طاوسٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ وابنِ أبي ليلى إلَّا أنَّه لا يحبط، وحكى ابنُ المنذِرِ مثلَه عنْ أبي يوسفَ والشَّافعيِّ، وعلَّة ذَلِكَ أنَّ النَّهي إنَّما ورد في الاختلاء دون الرَّعي فيها، والرَّعي غير المختلي لأنَّ المختلي هو الَّذي يقطع الخَلاء بنفسه، وقال آخرون: لا يجوز الرَّعي فيها لأنَّ الرَّعي أكثر مِنَ الاختلاء، هذا قولُ أبي حنيفةَ وصاحبيه، قالوا: لو جاز ذَلِكَ جاز أنْ يحتشَّ فيه إلَّا (الإِذْخِرَ) خاصَّة.
          وقال مالكٌ: لا يحتشُّ لدابَّته، واعتلُّوا بالحديث، واختلاؤه استهلاكٌ له وإماتةٌ، وإرعاءُ المواشي فيه أكثرُ مِنَ احتشاشِه في الاستهلاك، وأمَّا جواز اجتناء الكَمْأة ولا صُنعَ فيها لبني آدمَ لأنَّه لا يقع عليها اسمُ شجرٍ ولا حشيشٍ، وفي إجماع الجميع على أنَّه لا بأس بشرب مياهِ آباره، والانتفاعِ بترابه للدَّليل الواضح أنَّ ما أحدث الله في حرمه مطلقٌ أخذُه والانتفاع به كالكَمْأَة لأنَّها لا تستحقُّ اسم كلأٍ ولا شجرٍ، وإنَّما هي كبعض ما خلق الله فيها مِنَ الشَّجر والمدر والمياه إذْ لا أصل لها ثابتٌ.
          وطلبُ العبَّاس استثناء (الإِذْخِرَ) يحتمل أنْ يكون تحريمُ مكَّة خَاصَّةً مِنْ تحريم الله، ويكون سائرُ ما ذكر في الحديث مِنْ تحريمه _◙_ فلذلك طلب استثناءه، ولو كان مِنْ تحريم الله ما استبيح مِنْه إذخِرٌ ولا غيره، وقد يأتي في آيةٍ وفي حديثٍ أشياءُ منها فرضٌ ومنها سنَّةٌ ومنها رغبةٌ، ويكون الكلام فيها كلِّها واحدًا قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}الآية [النحل:90]، والعدل فرضٌ، والإحسان والباقي سننٌ ورغائبُ، ومثله قوله _◙_: ((إِذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ))، والرُّكوع فريضةٌ، وقوله: ((ربَّنا ولك الحمد)) نافلةٌ.
          ويحتمل أنْ يكون تحريم مكَّة وَكُلُّ ما ذُكر في الحديث مِنْ تحريمِ الله تعالى، ويكون وجه استثنائه ذَلِكَ لأنَّ الرَّبَّ _تعالى_ أعلمَ نبيَّه في كتابه بتحليل المحرَّمات عند الضَّرورات كالميْتة وغيرها، ثمَّ أحلَّها بالآية الأخرى، وهو حسنٌ.
          وقوله: (وأَنَّهُ لَم يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي) فيه الإبانة أنَّ مكَّة غيرُ جائز لأحدٍ استحلالُها ولا نصبُ الحرب عليها لِقتال أهلِها بعدما حرَّمها الله ورسولُه إلى قيام السَّاعة، وذلك أنَّه _◙_ أخبر حين فرغ مِن أمر المشركين بها، وأنَّها لله _تعالى_ حَرَمٌ، وأنَّها لمْ تَحِلَّ لأحدٍ قبله ولا لأحدٍ بعدَه بعد تلك السَّاعةِ الَّتي حارب فيها المشركين وأنَّها قد عادت حُرمتُها كما كانت، فكان معلومٌ بقوله هذا أنَّها لا تَحِلُّ لأحدٍ بعده بالمعنى الَّتي حلَّت له به، وذلك محاربةُ أهلها وقتالُهم وردُّهم عنْ دينهم.
          وأمَّا قتال الحَجَّاج وغيرِه لها، ونصْبُ الحرب لها، وأنَّ القُرْمُطيَّ الكافرَ قَلَعَ الحجَرَ الأسودَ مِنْها وأمسك سبعة عشر عامًا، فوجْهُه: أنَّ الحَجَّاج وكلَّ مَن نصب الحرب عليها بعد رسول الله _صلعم_ لمْ يكن ذَلِكَ له مباحًا ولا حلالًا كما حلَّ للشَّارع، وليس قولُه: ((قَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا كَما كَانَتْ وَلَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِهَا لِأَحَدٍ بَعْدِي)) أنَّ هذا لا يقع ولا يكون، وكيف يريد ذَلِكَ وقد أنذرَنا أنَّ ذا السُّويقتين مِنَ الحبشة يخربها حجرًا حجرًا، وإنَّما معناه أنَّ قتالَها ونصْبَ الحرب / عليها حرامٌ بعدَه على كلِّ أحدٍ إلى يوم القيامة، وأنَّ مَنِ استباح ذَلِكَ فقد ركِب ذنبًا عظيمًا، واستحلَّ محرَّمًا شنيعًا.
          فإنْ قلتَ: لو ارتدَّ مرتدٌّ بمكَّة فمنع أهلُها السُّلطانَ مِنْ إقامة الحدِّ عليه أيجوز للسُّلطان حربُهم وقتالُهم حَتَّى يِصَل إلى مَنْ يجب عليه إقامةُ الحدِّ؟ قلتُ: نعم، ولكن يجب على الإمام الاحتيالُ لإخراجِهم مِنَ الحرم حَتَّى يقيمه بالحصار ومنعِ الطَّعام ونحوِه.