شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من استأجر أجيرًا فترك أجره فعمل فيه المستأجر فزاد

          ░12▒ بَابُ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ الأَجِيرُ أَجْرَهُ فَعَمِلَ فِيهِ المُسْتَأْجِرُ(1) فَزَادَ، وَمَنْ(2) عَمِلَ في مَالِ غَيْرِهِ فَاسْتَفْضَلَ(3).
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ(4) قَبْلَكُمْ، حَتَّى أَوَوا(5) المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ(6) فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ(7)، فَقَالُوا: لَا يُنْجِيكُمْ مِنْهَا إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ(8) رَجُلٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ / وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَالَ لي(9): يَا عَبْدَ اللهِ، أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ(10) بِي؟ قُلْتُ: لَا، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ) الحديثَ. [خ¦2272]
          قالَ المُهَلَّبُ: تجرُه في أجر أجيره على التَّفضُّل والتَّبرُّع والإحسان منه، وإنَّما كان عليه مقدار العمل خاصَّةً(11)، فلمَّا أنماه له، وقَبِلَ ذلك الأجير، راعى الله له حقَّ تفضُّله فعجَّل له المكافأة في الدُّنيا بأن خلَّصه بذلك مِنْ هلكة الغار، والله تعالى يأجره على(12) ذلك في الآخرة.
          قالَ المؤلِّفُ: وأمَّا مَنْ تجر في مال غيره، فقالت طائفةٌ: يطيب له الرِّبح إذا ردَّ رأس المال إلى صاحبه، وسواءٌ كان غاصبًا للمال أو وديعةً عنده متعدِّيًا فيه. هذا قول عَطَاءٍ ورَبِيْعَةَ(13) ومالكٍ واللَّيْثِ والثَّوْرِيِّ والأوزاعيِّ وأبي يُوسُفَ، واستحبَّ مالكٌ والثَّوْرِيُّ والأوزاعيُّ تنزُّهه(14) عنه، ويتصدَّق به.
          وقالت طائفةٌ: يردُّ المال ويتصدَّق بالرِّبح كلِّه، ولا يطيب له منه شيءٌ. هذا قول أبي حنيفةَ وزُفَرَ ومُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ، وقالت طائفةٌ: الرِّبح لربِّ المال، وهو ضامنٌ لما تعدَّى فيه. هذا قول ابنِ عُمَرَ وأبي قِلَابَةَ، وبه قال أحمدُ وإِسْحَاقُ، وقال الشَّافعيُّ: إن اشترى السِّلعة بالمال بعينه فالرِّبح ورأس المال لربِّ المال، وإن اشتراها بمالٍ بغير عينه قبل(15) أن يستوجبها(16) بثمنٍ معروف المقدار غير معروف العين، ثمَّ نقد المال المغصوب أو الوديعة بغير إذن ربِّها(17) فالرِّبح له، وهو ضامنٌ لما استهلك(18) مِنْ مال غيره.
          وأصحُّ هذه الأقوال قول مَنْ رأى أنَّ الرِّبح للغاصب والمتعدِّي، والحجَّة له أنَّ العين قد صار في ذمَّته، وهو وغيره مِنْ ماله سواءٌ، إذ لا غرض للنَّاس في أعيان الدَّنانير والدَّراهم، وإنَّما غرضهم في تصرُّفهم فيها، ولو غصبها مِنْ رجلٍ ثمَّ أراد أن يدفع إليه غيرها مثلها وهي قائمةٌ بيده، لكان له ذلك على أصل قول مالكٍ، فإذا كان له أن يدفع إليه غيرها فربحها له، وحديث هذا الباب حجَّةٌ لذلك، ألا ترى أنَّ الأجير حين قال له مَنْ أجره: (كُلُّ مَا تَرَى مِنَ الإِبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيْقِ مِنْ أَجْرِكَ، قَالَ لَهُ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي؟) فدلَّ هذا(19) أنَّ السُّنَّة كانت عندهم أنَّ الرِّبح(20) للمتعدِّي العامل، وأنَّه لا حقَّ فيه لربِّ رأس المال، وأخبر بذلك النَّبيَّ صلعم فأقرَّه(21) ولم ينسخه، وقد رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ما يدلُّ على أنَّ الرِّبح له بالضَّمان، روى مالكٌ في «المُوَطَأِ»: أنَّ أبا مُوسَى أسلف عبدَ اللهِ وعُبَيْدِ اللهِ ابني عُمَرَ مِنْ بيت المال، فاشتريا به متاعًا وحملاه إلى المدينة، فربحا فيه، فقال عُمَرُ: أدِّيا المال وربحه. فقال عُبَيْدُ اللهِ: ما ينبغي لك هذا، لو هلك المال أو نقص ضمنَّاه، فقال رجلٌ: لو جعلته قراضًا يا أمير المؤمنين. قال: نعم، فأخذ منهما نصف الرِّبح، فلم ينكر عُمَرُ قول ابنه: لو هلك المال أو نقص ضمنَّاه، فلذلك طلب لنا(22) ربحه، ولا أنكره أحدٌ مِنَ الصَّحابة بحضرته، وقد تقدَّم في كتاب البيوع في حديث ابنِ عُمَرَ مثل هذا(23) مَنْ زرع طعامًا مغصوبًا في باب إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضي ومذاهب العلماء في ذلك [خ¦2215].
          والغَبْقُ والاغتِبَاقُ(24): شُرْبُ العشيِّ، واسم الشَّراب: الغَبُوقُ، وقال صاحبُ «الأفعال»: غَبَقْتُ الرَّجُلَ، ولا يُقَالُ: أَغْبَقْتُهُ.
          وقوله: (ألمَّتْ بها سَنَةٌ) يعني أتت عليها سَنةٌ شديدةٌ أحوجتها.


[1] زاد في (ص): ((فيه)).
[2] في (ز): ((وفي من)).
[3] زاد في (ص): ((في مال غيره فيه)).
[4] قوله: ((كان)) ليس في (ز).
[5] في (ز): ((آواهم)).
[6] في (ز): ((فدخلوا)).
[7] قوله: ((الغار)) ليس في (ص).
[8] في (ز): ((قال)).
[9] قوله: ((لي)) ليس في (ز).
[10] في (ز): ((تستهزئ)).
[11] قوله: ((خاصَّة)) ليس في (ص).
[12] في (ز): ((والله تعالى مليء بأجره على)).
[13] قوله: ((وربيعة)) ليس في (ص).
[14] في (ز): ((أن يتنزَّه)).
[15] في (ز): ((مثل)).
[16] زاد في (ز): ((منه)).
[17] قوله: ((بغير إذن ربِّها)) ليس في (ص).
[18] زاد في (ز): ((خاصَّة)).
[19] زاد في (ز): ((على)).
[20] زاد في (ز): ((عندهم)).
[21] في (ز): ((وأقرَّه)).
[22] في المطبوع: ((طاب له))، وغير واضحة في (ص).
[23] قوله: ((مثل هذا)) ليس في المطبوع، وغير واضحة في (ص).
[24] في المطبوع: ((والاغتباق والغبوق))، وفي (ص): ((العلماء في ذلك... والغبوق)).