شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الإجارة إلى صلاة العصر

          [░9▒ وترجم له بابُ الإجارةِ إلى صلاةِ العصرِ، وترجم له باب الإجارة مِنَ العصر إلى اللَّيل.
          وذَكَرَ فيهِ حديثَ أَبي مُوسَى عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (مَثَلُ المُسْلِمِينَ وَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنَا، وَمَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا، أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا، فَأَبَوا وَتَرَكُوا، وَاسْتَأْجَرَ آخَرِيْنَ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمَ هَذَا وَلَكُمَ الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الأَجْرِ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ صَلَاةُ العَصْرِ، قَالوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلًا(1) وَلَكَ الأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ(2)، فإنَّمابَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ فَأَبَوا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ،حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، فاستَكْمَلُوا(3) أَجْرَ الفَرِيقَيْنِ كِلَيهِمَا، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا مِنْ هَذَا القَوْلِ(4))]
(5). [خ¦2269]
          قالَ ابنُ المُنْذِرِ: في حديث ابنِ عُمَرَ ذكر الإجارة الصَّحيحة(6) بالأجر المعلوم إلى الوقت المعلوم، ولولا أنَّ ذلك جائزٌ ما ضرب بها ◙ المثل.
          وقالَ المُهَلَّبُ: إنَّما هذا مثلٌ ضربه النَّبيُّ صلعم للنَّاس الَّذين كلَّفهم(7) الله تعالى لعبادته، فشرع لهم دين مُوسَى ليعملوا الدَّهر كلَّه بما يأمرهم به وينهاهم عنه [فعملوا على دين مُوسَى إلى أن بعث الله عيسى، / فأمرهم بأن يعبدوه(8) على شريعته، فأبوا وتبرَّؤوا ممَّا جاء به عيسى، وعمل آخرون بما جاء به عيسى](9) على أن يعملوا باقي الدَّهر بما يؤمرون به وينهون عنه، فعملوا حتَّى بعث الله مُحَمَّدًا صلعم فدعاهم إلى العمل بما جاء به، فعصوا وأَبَوا وقطعوا العمل، فعمل المسلمون بما جاء به، ويعملون به(10) إلى يوم القيامة، فلهم أجر مَنْ عمل الدَّهر كلَّه، لأنَّهم أتمُّوا الدَّهر(11) بعبادة الله ╡ كإتمام النَّهار الَّذي كان استُؤجر عليه كلُّه أوَّل طبقةٍ.
          وقوله في حديث ابنِ عُمَرَ: (مَنْ يَعْمَلْ لِي مِنْ غُدْوَةٍ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ) قدَّر لهم مدَّة أعمال اليهود ولهم أجرهم عليه إلى أن نسخ(12) الله شريعتهم بعيسى ◙، وقال(13) عند مبعث عيسى: مَنْ يعمل لي(14) مدَّة هذا الشَّرع(15) وله أجر قيراطٍ؟ فعملت النَّصارى إلى أنَّ نسخ الله دين عيسى بمُحَمَّدٍ صلعم، ثمَّ قال متفضِّلًا على المسلمين: مَنْ يعمل بقيَّة(16) النَّهار إلى اللَّيل وله قيراطان فقال المسلمون: نحن نعمل إلى انقطاع الدَّهر بشريعة مُحَمَّدٍ ◙، فهذا الحديث وجه(17) العمل بمدد الشَّرائع، والحديث الثَّاني وجه(18) العمل الدَّهر كلِّه، فبقي أنَّ مَنْ عمل مِنَ اليهود إلى أن(19) نُسِخَ دين مُوَسى، ثمَّ انتقل وآمن بعيسى وعمل بشريعته أنَّ(20) له أجره مرَّتين. وكذلك مَنْ عمل مِنَ النَّصارى بدين عيسى مدَّة شرعه ثمَّ آمن بمُحَمَّدٍ وعمل بشريعته كان له أجره مرَّتين(21)، كما كان للمسلمين أجرهم مرَّتين يعني(22) كأجر اليهود والنَّصارى قبلهم، لأنَّهم أُعطوا قيراطين على أجر(23) النَّهار كما أُعطي اليهود والنَّصارى قيراطين(24) على أكثره، وإنَّما ذلك مِنْ أجل إيمان المسلمين بموسى وعيسى صلَّى الله عليهما، وإن كانوا(25) لم يعملوا بشريعتهما، لأنَّ التَّصديق عملٌ.
          فإن قيل: فما معنى قول اليهود والنَّصارى: (نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقُّل عَطَاءً) وبين نصف النَّهار والعصر(26) ثلاث ساعاتٍ كما بين العصر إلى اللَّيل ثلاث ساعاتٍ(27)، وإنَّما كان يكون معنى الحديث ظاهرًا لو قال ذلك اليهود خاصَّةً، لأنَّهم عملوا نصف النَّهار على قيراطٍ وذلك ستَّ ساعاتٍ، وعملت النَّصارى ثلاث ساعاتٍ على قيراطٍ؟
          قيل: يحتمل معانٍ(28) مِنَ التَّأويل: أحدها: أن يكون قوله: (نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً) مِنْ قول اليهود خاصَّةً، لأنَّهم عملوا ستَّ(29) ساعاتٍ بقيراطٍ، ويكون مِنْ قول النَّصارى: (نَحْنُ أَقَلُّ عَطَاءً) وإن كانوا متقاربين مع المسلمين في العمل، فيكون الحديث على العموم في اليهود، وعلى الخصوص في النَّصارى، وقد يأتي في(30) الكلام إخبارٌ عن جملةٍ والمراد بعضها، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ}[الرَّحمن:22]وإنَّما يخرج مِنْ أحدهما مِنَ الملح لا مِنَ العذب، ومثله: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا}[الكهف:61]والنَّاسي كان يُوْشَعُ وحدَه، يدلُّ على ذلك قوله لموسى صلعم: {إِنِّي نَسِيْتُ الحُوْتَ}.
          وفيه تأويلٌ آخر على العموم فيهما، على أنَّ كلَّ طائفةٍ منهما أكثر عملًا وأقلُّ عطاءً، وذلك قوله: (فَعَمِلَتِ النَّصَارَى إِلَى صَلَاةِ العَصْرِ) وليس فيه أنَّه إلى أوَّل وقت العصر، فنحمله(31) أنَّها عملت إلى آخر وقت صلاة العصر، قاله ابنُ القَصَّارِ.
          وفيه وجهٌ آخر: وذلك أن نصف النَّهار وقت زوال الشَّمس، والزَّوال في آخر السَّاعة السَّادسة، والعصر في أوَّل العاشرة بعد مضي شيءٍ يسيرٍ منها، فزادت المدَّة الَّتي بين الظُّهر إلى العصر على المدَّة الَّتي بين العصر إلى اللَّيل بمقدار ما بين آخر السَّاعة التَّاسعة وأوَّل العاشرة، وإن كان ذلك القدر لا يتبيَّنه كثير مِنَ النَّاس، فهي زيادةٌ معلومةٌ بالعقل، والله أعلم(32).


[1] في المطبوع: ((باطل)).
[2] في المطبوع: ((بقيَّة يومكم)).
[3] في المطبوع: ((فأكملوا)).
[4] في المطبوع: ((النُّور)).
[5] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[6] في (ز): ((صحيحة)).
[7] في المطبوع: ((خلقهم))، وغير واضحة في (ص).
[8] في المطبوع: ((يتبعوه)).
[9] ما بين معقوفتين ليس في (ص).
[10] قوله: ((به)) ليس في (ز).
[11] قوله: ((لأنَّهم أتمُّوا الدَّهر)) ليس في (ص).
[12] في (ز): ((ينسخ)).
[13] في (ز): ((فقال)).
[14] في المطبوع: ((في))، وقوله: ((لي)) ليس في (ز).
[15] في (ز): ((الشَّهر)).
[16] في (ز): ((باقي)).
[17] في (ز): ((وجهه)).
[18] في (ز): ((وجهه)).
[19] قوله: ((أنَّ)) ليس في (ص).
[20] في (ز): ((كان)).
[21] قوله: ((وكذلك من عمل من النَّصارى بدين عيسى مدَّة شرعه ثمَّ آمن بمحمَّدٍ وعمل بشريعته كان له أجره مرَّتين)) ليس في (ز).
[22] قوله: ((يعني)) ليس في (ص).
[23] في (ص): ((آخر)).
[24] قوله: ((على أجر النَّهار كما أعطى اليهود والنَّصارى قيراطين)) ليس في المطبوع.
[25] قوله: ((كانوا)) ليس في (ص).
[26] في (ز): ((إلى العصر)).
[27] قوله: ((كما بين العصر إلى اللَّيل ثلاث ساعاتٍ)) ليس في (ز).
[28] في (ز): ((معاني)).
[29] قوله: ((ستَّ)) ليس في (ز).
[30] قوله: ((في)) ليس في المطبوع.
[31] في (ز): ((فمحمله)).
[32] في (ز): ((الموفِّق)).