شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إثم الغادر للبر والفاجر

          ░22▒ باب: إِثْمِ الْغَادِرِ للْبَرِّ وَالْفَاجِرِ
          فيه: أَنَسٌ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ(1) يُنْصَبُ، وَقَالَ الآخَرُ: يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُعْرَفُ بِهِ). [خ¦3186] [خ¦3187]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ، قَالَ صلعم: (لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). [خ¦3188]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ، قَال: (قَالَ صلعم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ فِيهِ الْقِتَالُ لأحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلا يُخْتَلَى خَلاها) الحديث. [خ¦3189]
          قال المُهَلَّب: أخبر صلعم أنَّ عقوبة الغادر يوم القيامة أن يُرفَع له لواءٌ ليعرف النَّاس بغدرته، فينظرون منه بعين المعصية، وهذه عقوبةٌ من نوع ما قال الله في عقوبة الكاذبين على الله: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ}[هود:18]وإنَّما قال البخاريُّ: (بَابُ إِثمِ الغَادِرِ لِلبرِّ والفَاجِرِ) لعموم قوله صلعم: (لكلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَومَ القِيَامَةِ) فدخل فيه من غدر من برٍّ أو فاجرٍ، دلَّ أنَّ الغدر حرامٌ لجميع النَّاس برِّهم وفاجرهم؛ لأنَّ الغدر ظلمٌ، وظلم الفاجر حرامٌ كظلم البرِّ التَّقيِّ.
          فإن قال قائلٌ: فما وجه موافقة حديث ابن عبَّاسٍ للتَّرجمة؟ قيل: وجه ذلك _والله أعلم_ أنَّ محارم الله عهودٌ إلى عباده، فمن انتهك منها شيئًا لم يف بما عاهد الله عليه، ومن لم يف فهو من الغادرين، وأيضًا فإنَّ النَّبي صلعم لمَّا فتح مكَّة منَّ على أهلها كلِّهم مؤمنهم ومنافقهم، ومعلومٌ أنَّه كان فيهم منافقون، ثمَّ أخبر صلعم أنَّ مكَّة حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة وأنَّه لا يحلُّ قتال أحدٍ فيها، وإذا كان هذا فلا يجوز الغدر ببرٍّ منهم ولا فاجرٍ؛ إذ شمل جميعهم أمان النَّبيِّ صلعم وعفوه عنهم، والله الموفق.


[1] زاد في الصحيح: هنا ((قَالَ أَحَدُهُمَا)).