شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا

          ░11▒ باب إِذَا قَالُوا صَبَأْنَا وَلَمْ / يُحْسِنُوا أن يقولوا أَسْلَمْنَا
          وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: (أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ).
          وَقَالَ عُمَرُ: إِذَا قَالَ: مَتْرَسْ، فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ الألْسِنَةَ كُلَّهَا، أَوَ قَالَ: تَكَلَّمْ، لا بَأْسَ.
          قال المؤلِّف: غرض البخاريِّ في هذا الباب نحو ما تقدَّم فيمن تكلَّم بالفارسيَّة والرَّطانة، وقوله تعالى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}[الروم:22]فذكر فيه عن النَّبيِّ صلعم أنَّه تكلَّم بألفاظ الفارسيَّة، وكانت متعارفة عندهم، خاطب بها أصحابه، وفهموها عنه.
          فالمراد من هذين البابين أنَّ العجم إذا قالوا: (صَبَأْنَا)، وأرادوا بذلك الإسلام فقد حقنوا دماءهم ووجب لهم الأمان؛ ألا ترى قول عمر: (إِذَا قَالَ: مَتْرَسْ، فَقَدْ آمَنَهُ، إِنَّ اللهَ يَعلَمُ الأَلسِنَةَ كُلَّهَا) فسواءٌ خاطبنا العجم بلغتهم، أو خاطبناهم بها على معنى الأمان؛ فقد لزم الأمان وحرم القتل. ولا خلاف بين العلماء أنَّ من أمَّن حربيًّا بأيِّ كلامٍ يفهم به الأمان فقد تمَّ له الأمان، وأكثرهم يجعلون الإشارة بالأمان أمانًا، وهو قول مالكٍ والشَافعيِّ وجماعةٍ.
          قال المُهَلَّب: ولم يفهم خالدٌ من قوله: (صَبَأنَا) أنَّهم يريدون به أسلمنا، ولكن حمل اللَّفظة على ظاهرها، وتأوَّلها أنَّها في معنى الكفر؛ فلذلك قتلهم، ثمَّ تبيَّن أنَّهم أرادوا بها أسلمنا فجهلوا فقالوا: (صَبَأنَا). وإنَّما قالوا ذلك؛ لأنَّ قريشًا كانت تقول لمن أسلم مع النَّبيِّ: صبأ فلانٌ، حتَّى صارت هذه اللَّفظة معروفةً عند الكفَّار وعادةً جاريةً، فقالها هؤلاء القوم، فتأوَّلها خالدٌ على وجهها، فعذره النَّبيُّ صلعم بتأويله، ولم يقد منه، وسيأتي اختلاف العلماء في الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فقتل من لم يجب عليه القتل، على من ضمان ذلك؟ في كتاب الأحكام في باب: إذا قضى القاضي بجورٍ أو خلاف أهل العلم فهو مردودٌ، إن شاء الله. [خ¦7189]
          وأمَّا قول عمر فذكره مالكٌ في «الموطَّأ» أنَّ عُمَر بن الخطَّاب كتب إلى عامل جيشٍ: بلغني أنَّ رجالًا منكم يطلبون العلج حتَّى إذا اشتدَّ في الجبل وامتنع قال رجلٌ: مترس. يقول: لا تخف، فإذا أدركه قتله، والذي نفسى بيده، لا أعلم أحدًا فعل ذلك إلَّا ضربت عنقه.
          قال مالكٌ: وليس على هذا العمل. قال المؤلِّف: يعني في قتل المسلم بالكافر، وعليه العمل في جواز التَّأمين.
          وأمَّا قول عمر: (أَوْ قَالَ: تَكَلَّم. لَا بَأسَ). فإنَّه يعني قول عمر: للهُرمُزان تكلَّم. لا بأس. فكان ذلك له عهدًا وتأمينًا.
          ذكر ابن أبي شيبة، حدَّثنا مروان بن معاوية، عن حميدٍ، عن أنسٍ قال: حاصرنا تُستَر فنزل الهرمزان على حُكم عمر، فبعث به أبو موسى فلمَّا قدمنا على عمر سكت الهرمزان فلم يتكلَّم، فقال عمر: تكلَّم، فقال: كلام حيٍّ أو كلام ميِّتٍ؟ فقال عمر تكلَم فلا بأسَ. قال: إنَّا وإيَّاكم معشر العرب _ما خلا الله بيننا_ كنَّا نقتلكم ونغصبكم، فأمَّا إذا كان معكم فلم يكن لنا بكم يدان، فقال عمر: نقتله يا أنس؟ قلت: يا أمير المؤمنين، تركت خلفي شوكةً شديدةً وعدوًّا كثيرًا، إن قتلته يئس القوم من الحياة، وكان أشدَّ لشوكتهم، وإن استحييته طمع القوم. فقال: يا أنس، أستحيى قاتل البراء بن مالكٍ ومجزأة بن ثورٍ؟ فلمَّا خشيت أن ينبسط عليه قلت له: ليس لك إلى قتله سبيلٌ، فقال: أعطاك شيئًا؟ قلت: ما فعلت، ولكنَّك قلت له: تكلَّم فلا بأس، قال: لتجيئنَّ بمن يشهد معك وإلَّا بدأت بعقوبتك؟ فخرجت من عنده، فإذا أنا بابن الزُّبير بن العوَّام قد حفظ ما حفظت، فشهد عنده فتركه، وأسلم الهرمزان وفرض له.