شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره وإثم من لم يف

          ░12▒ باب الْمُوَادَعَةِ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ وَفَضْلُ الوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَإِثْمِ مَنْ لَمْ يَفِ بِهِ.
          فيه: سَهْلُ بْنُ أبي حَثْمَةَ: (انْطَلَقَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ، إلى خَيْبَرَ، وَهيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ، وَهُوَ يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ قَتِيلًا، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحمَنِ بْنُ / سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ، إلى النَّبيِّ صلعم فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: كَبِّرْ، كَبِّرْ، وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ، فَسَكَتَ، فَتَكَلَّمَا، فَقَالَ: أتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ قَتيِلِكُمْ، أَوْ صَاحِبِكُمْ، قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ، وَلَمْ نَشْهَدْ، وَلَمْ نَرَ، قَالَ: فَتُبْرِئُكُمْ(1) يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا، فَقَالُوا: كَيْفَ نَأْخُذُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ، فَعَقَلَهُ النَّبيُّ صلعم مِنْ عِنْدِهِ). [خ¦3173]
          قال المُهَلَّب: لا بأس بالموادعة والمصالحة للمشركين بالمال إذا كان ذلك بمعنى الاستئلاف للكفَّار، لا إذا كانت الجزية لأنَّها ذلَّةٌ وصغارٌ، وقد قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ}[محمد:35]وإنَّما وداه النَّبيُّ صلعم من عنده استئلافًا لليهود وطمعًا منه في دخولهم الإسلام، وليستكف بذلك شرهم عن نفسه، وعن المسلمين مع إشكال القضيَّة بإباءة أولياء القتيل من اليمين وإباءتهم أيضًا من قبول أيمان اليهود، فكان الحكم أن يكون مطلولًا، ولكن أراد صلعم أن يوادع اليهود بالغرم عنهم؛ لأنَّ الدَّليل كان متوجِّهًا إلى اليهود في القتل لعبد الله، وأراد أن يذهب ما بنفوس أوليائه من العداوة لليهود، بأن غرم لهم الدِّية؛ إذ كان في العرب جاريًا أنَّ من أخذ دية قتيله فقد انتصف.
          وذكر الوليد بن مسلمٍ قال: سألت الأوزاعيَّ عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على فديةٍ أو هُدْنَةٍ يؤدِّيها المسلمون إليهم فقال: لا يصلح ذلك إلَّا عن ضرورةٍ وشغلٍ من المسلمين عن حربهم من قتال عدوِّهم، أو فتنةٍ شملت المسلمين، فإذا كان ذلك وذكرت ذلك لسعيد بن عبد العزيز فقال: قد صالحهم معاوية أيَّام صفِّين، وصالحهم عبد الملك بن مروان لشغله بقتال ابن الزُّبير، يؤدِّي عبد الملك إلى طاغية الرُّوم في كلِّ يوم ألف دينارٍ، وإلى تراجمة الرُّوم وأنباط الشَّام في كلِّ جمعةٍ ألف دينارٍ.
          وقال الشَّافعيُّ: لا يعطيهم المسلمون شيئًا بحالٍ إلَّا أن يخافوا أن يصطلحوا لكثرة العدد لأنَّه من معاني الضَّرورات أو يؤسر مسلمٌ فلا يُخَلَّى إلَّا بفديةٍ فلا بأس به لأنَّ رسول الله قد فدا رجلًا برجلين.
          قال المؤلِّف: ولم أجد لمالكٍ وأصحابه ولا للكوفيِّين نصًّا في هذه المسألة، وقال الأوزاعيُّ: لا بأس أن يصالحهم الإمام على غير خراجٍ يؤدُّونه إليه، ولا فدية إذا كان ذلك نظرًا للمسلمين وإبقاءً عليهم، وقد صالح رسول الله قريشًا عام الحديبية على غير خراجٍ أدَّته قريش إلى رسول الله ولا فدية.


[1] في (ص): ((فتديكم)) والمثبت من المطبوع.