شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إخراج اليهود من جزيرة العرب

          ░6▒ باب إِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ
          وَقَالَ عُمَرُ، عَنِ النَّبيِّ صلعم: (أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ).
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ في الْمَسْجِدِ، خَرَجَ النَّبيُّ صلعم فَقَالَ: انْطَلِقُوا إلى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَالَ: أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأرْضِ، فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الأرْضَ لِلَّهِ وَلرَسُولِهِ). [خ¦3167]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيْس اشْتَدَّ بالنَّبيِّ صلعم وَجَعُهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ، فَتَنَازَعُوا وَلا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: مَا لَهُ هَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ، فَقَالَ: ذَرُونِي، لَلَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِثَلاثٍ، فَقَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوُفُودَ كَمَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَالثَّالِثَةُ نَسِيَهَا سُلَيمَانُ الأَحْوَلُ). [خ¦3168]
          أمَّا قوله صلعم: (أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ) فمعناه: أنَّه كان يكره أن يكون بأرض العرب غير المسلمين؛ لأنَّه امتحن في استقبال القبلة حتَّى نزل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}[البقرة:144]فامتحن مع بني النَّضير حين أرادوا الغدر به، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأمره الله تعالى باجتلائهم وإخراجهم، وترك سائر اليهود. وكان لا يتقدَّم في شيءٍ إلَّا بوحي الله وكان يرجو أن يحقِّق الله رغبته في إبعاده اليهود عن جواره فقال ليهود خيبر: (أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ) منتظر للقضاء فيهم، فلم يوح إليه في ذلك بشيءٍ إلى أن حضرته الوفاة، فأوحي إليه فيه فقال: ((لا يبقين دينان بأرض العرب)) فأوصى بذلك عند موته، فلمَّا كان في خلافة عمر وعدوا على ابنه وفدعوه، فَحصَ عن قول النَّبيِّ صلعم فيهم، فأخبر أنَ نبيَّ الله صلعم أوصى عند موته بإخراجهم من جزيرة العرب. فقال: من كان عنده عهدٌ من رسول الله صلعم فليأت به، وإلَّا فإنِّي مجليكم. فأجلاهم.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما أمر بإخراجهم _والله أعلم_ خوف التَّدليس منهم، وأنَّهم متى ناوؤا عدوًّا قويًّا صاروا معه كما فعلوا بالنَّبيِّ صلعم يوم الأحزاب.
          قال الطَّبريُّ: فيه من الفقه أنَّ النَّبيَّ صلعم بيَّن لأئمَّة المؤمنين / إخراج كلِّ من دان بغير دين الإسلام من كلِّ بلدةٍ للمسلمين سواءٌ كانت تلك البلدة من البلاد التي أسلم عليها أهلها أو من بلاد العنوة إذا لم يكن بالمسلمين ضرورةٌ إليهم ولم يكن الإسلام يومئذٍ ظهر في غير جزيرة العرب ظهور قهرٍ، فبان بذلك أنَّ سبيل كلِّ بلدةٍ قهر فيها المسلمون أهل الكفر، ولم يكن تقدَّم قبل ذلك من إمام المسلمين لهم عقد صلحٍ على إقرارهم فيها أنَّ على الإمام إخراجهم منها، ومنعهم القرار بها، إلَّا أن يكون بالمسلمين إليهم ضرورة الإقرار مسافرًا ومقام ظعنٍ وأكثر ذلك ثلاثة أيَّام ولياليها، كالذي فعل الأئمَّة الأبرار عمر وغيره، فإن ظنَّ ظانٌّ أنَّ فعل عمر في ذلك إنَّما هو خاصٌّ بمدينة الرَّسول صلعم، وسائر جزيرة العرب؛ لأمره صلعم بإخراجهم منها دون سائر بلاد الإسلام وقال: لو كان(1) حكم غير جزيرة العرب كحكمها في التَّسوية بين جميعها في إخراج أهل الكفر منها، لما كان عمر يقرُّ النَصارى في سواد العراق وقد قهرهم الإسلام وعلاهم ولكان قد أجلى نصارى الشَّام ويهودها عنه، وقد غلب الإسلام على بلادهم، ولمَّا ترك مجوس فارس في أرضهم، وقد غلبهم الإسلام وأهله، فإنَّ الأمر في ذلك بخلاف ما ظنَّ، وذلك أنَّ عمر لم يقرَّ أحدًا من أهل الشِّرك في أرضٍ قد قهر فيها الإسلام وغلب ولم يتقدَّم قبل ذلك قهره إيَّاهم منه لهم أو من المؤمنين عقد صلحٍ على التَّرك فيها إلَّا لضرورة المسلمين إلى إقرارهم فيها، كإقراره نبط سواد العراق في السَّواد بعد غلبة المسلمين عليه، وكإقراره من أقرَّ من نصارى الشَّام فيها بعد غلبتهم على أرضها دون حصونها؛ فإنَّه أقرهم للضَّرورة إليهم في عمارة الأرض؛ إذ كان المسلمون في الحرب مشاغيل، ولو أجلوا عنها لخربت الأرض، وبقيت بغير عامرٍ.
          فكان فعلهم في ذلك نظير فعله صلعم وفعل الصِّدِّيق في يهود خيبر بعد قهر المسلمين لهم، عمَّالًا عمَّارًا؛ إذ كانت بالمسلمين ضرورةٌ لعمارة أرضهم، لاشتغالهم بالحرب في مناوأة الأعداء، ثمَّ أمر رسول الله صلعم بإجلائهم عند استغنائهم عنهم، وقد كانوا سألوه عند قهرهم على الأرض إقرارهم فيها عمَّالًا لأهلها فأجابهم إلى إقرارهم فيها ما أقرَّهم الله، وإجلائهم منها إذا رأى ذلك.
          وأقرَّهم الصِّدِّيق على نحو ذلك. فأمَّا إقرارهم مع المسلمين في مصر لم يكن تقدَّم في ذلك قبل غلبة المسلمين عليه عقد صلحٍ بينهم وبين المسلمين بما لا نعلمه صحَّ به عنه ولا عن غيره من أئمَّة الهدى خبرٌ ولا قامت بجواز ذلك حجَّةٌ، بل الحجَّة في ذلك عن الأئمَّة ما قلناه.
          حدَّثني محمَد بن يزيد الرِّفاعيُّ، حدَّثنا محمَّد بن عبد الرَّحمن، عن قيس بن أبي الرَّبيع، عن أَبَان بن تغلب، عن رجلٍ قال: كان منادي عليٍّ ينادي كلَّ يوم: لا يبيتنَّ بالكوفة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ولا مجوسيٌّ، الحقوا بالحيرة.
          وحدَّثنا الرِّفاعيُّ، حدَّثنا ابن فضيلٍ، عن ليثٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ قال: لا يساكنكم أهل الكتاب في أمصاركم. قال أبو(2) هشامٍ الرِّفاعيُّ: سمعت يحيى بن آدم يقول: هذا عندنا على كلِّ مصرٍ اختطَّه المسلمون ولم يكن لأهل الكتاب فنزل عليهم المسلمون.
          قال الطَّبريُّ: وهذا قولٌ لا معنى له؛ لأنَّ ابن عبَّاسٍ لم يخصِّص بقوله: لا يساكنكم أهل الكتاب مصرًا سكَّانه الإسلام دون غيرهم، بل عمَّ بذلك جميع أمصارهم، وإنَّ دلالة أمره صلعم بإخراج اليهود من جزيرة العرب يوضِّح(3) صحَّة ما قال ابن عبَّاسٍ وأنَ الواجب على الإمام إخراجهم من كلِّ مصرٍ غلب عليه الإسلام إذا لم يكن بالمسلمين إليهم ضرورةٌ، ولا كانت من بلاد الذِّمَّة التي صولحوا على الإقرار فيها إلحاقًا لحكمه بحكم جزيرة العرب، وذلك أنَّ خيبر لم تكن من البلاد التي اختطَّها المسلمون وكذلك نجران بل كانت لأهل الكتاب وهم كانوا عمَّارها وسكَّانها فأمر رسول الله صلعم بإخراجهم منها حين غلب عليها الإسلام، ولم يكن بهم / إليهم ضرورةٌ.
          وقد حدَّثنا أبو كريبٍ حديث جريرٍ، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عبَاسٍ قال: قال رسول الله صلعم: ((لا تصحُّ قبلتان في أرضٍ)) فإذا صحَّ ما قلناه فالواجب على إمام المسلمين إذا أقرَّ بعض أهل الكتاب في بعض بلاد المسلمين لحاجتهم إليهم لعمارتها أو غير ذلك ألَّا يدعهم في مصرهم معهم أكثر من ثلاثٍ، وأن يسكنهم خارجًا من مصرهم كالذي فعل عمر وعليٌّ، وأن يمنعهم اتِّخاذ الدُّور والمساكن في أمصارهم، فإن اشترى منهم مشترٍ في مصرٍ من أمصار المسلمين دارًا، أو ابتنى به مسكنًا، فالواجب على إمام المسلمين أخذه ببيعها عليه، كما يجب عليه لو اشترى مملوكًا مسلمًا أن يأخذه ببيعه؛ لأنَّه ليس للمسلمين إقرار مسلمٍ في ملك كافرٍ، فكذلك غير جائزٍ إقرار أرض المسلمين في غير ملكهم.
          قال غيره: وكذلك الحكم في الرَّجل المسلم الفاسق، إذا شهد عليه أنَّه مؤذٍ لجيرانه بالسَّفه والتَّسليط، ويشكي به جيرانه، وصحَّ ذلك عند الحاكم، أنَّ له أن يخرجه من بين أظهرهم، وإن كان له دارٌ أكراها عليه، فإن لم يجد لها مكترٍ باعها عليه، ودفع الأذى عن جيرانه، ورأيت لابن القاسم أنَّه قال في المؤذي: تُكرَى عليه الدَّار ولا تُباع، وسيأتي هذا المعنى في كتاب الأحكام إن شاء الله. [خ¦7186]
          وقال أبو عبيدٍ: قال الأصمعيُّ: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن إلى ريف العراق في الطُّول. وأمَّا في العرض من جدَّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطرار(4) الشَّام.
          وقال إسماعيل بن إسحاق: عقبة تبوك هو الفرق بين جزيرة العرب وأرض الشَّام. وقال أبو عبيدٍ: جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطُّول. وأمَّا في العرض فما بين رَمْلِ يَبرِينَ إلى منقطع السَّماوة.
          قال الطَّبريُّ: وإنَّما قيل لها: جزيرة العرب، وهي جزيرة البحر؛ تعريفًا لها، وفرقًا بينها وبين سائر الجزائر، كما قيل: لأَجَأٍ وسَلْمى وهما جبلان من نجدٍ: جبلا طيءٍ؛ تعريفًا لهما بطيءٍ، وفرقًا بينهما وبين سائر جبال نجدٍ، وإنَّما قيل لها جزيرةٌ؛ لانقطاع ما كان فائضًا عليها من ماء البحر، وأصل الجزر في كلام العرب القطع، ومنه سمِّي الجزار: جزارًا؛ لقطعه أعضاء البهيمة.
          قال المُهَلَّب: في حديث ابن عبَّاسٍ أن جوائز الوفود سنَّة.


[1] قوله: ((لو كان)) ليس في (ص) والمثبت من المطبوع.
[2] في (ص): ((ابن)) والمثبت من المطبوع.
[3] زاد في (ص): ((من)) والمثبت من المطبوع.
[4] جاء في اللسان: الأطرار جمع طُرَّةٍ، وطرَّة كل بلد ناحيته.