شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟

          ░7▒ باب: إِذَا غَدَرَ المشْرِكُون بِالْمُسْلِمِينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُم؟
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلعم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ صلعم: اجْمَعُوا إِلَيَّ مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ يَهُودَ، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ لَهُمُ النَّبيُّ صلعم: مَنْ أَبُوكُمْ؟ قَالُوا: فُلانٌ، قَالَ: كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلانٌ، قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُ عَنْهُ، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَ في أَبِينَا، فَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَهْلُ النَّار؟ فقَالُوْا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا، فَقَال صلعم: اخْسَئُوا فِيهَا وَاللهِ لاَ نَخْلُفُكُم فِيهَا أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ، قَالُوا: نَعَمْ يَا أبَا القَاسِمِ,قال: جَعَلْتُمْ في هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ على ذَلِكَ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ). [خ¦3169]
          قال المُهَلَّب: ويعفى عن المشركين إذا غدروا بشيءٍ يستدرك إصلاحه وجبره ويعصم الله تعالى منه إذا رأى الإمام ذلك، وإن رأى عقوبتهم عاقبهم بما يؤدِّي إليه اجتهاده، وأمَّا إذا غدروا بالقتل أو بما لا يستدرك جبره وما لا يعتصم من شرِّه فلا سبيل إلى العفو، كما فعل النَّبيُّ صلعم في العُرَنيِّين عاقبهم بالقتل، وإن كان صلعم / قال لعائشة: ((ما زالت أكلة خيبر تُعَادُّني عهدًا فهذا أوان(1) قطع أبهري)) لكنَّه عفا عنهم حين لم يعلم أنَّه يقضى عليه؛ لأنَ الله تعالى دفع عنه ضرَّ السُّمِّ بعد أن أطلعه على المكيدة فيه بآيةٍ معجزةٍ أظهرها له من كلام الذِّراع، ثمَّ عصمه الله من ضرِّه مدَّة حياته، حتَّى إذا دنا أجله بغى عليه السُّمُّ، فوجد ألمه وأراد الله له الشَّهادة بتلك الأكلة؛ فلذلك لم يعاقبهم، وأيضًا فإنَّ اليهود قالوا: أردنا أن نختبر بذلك نبوَّتك وصدقك، فإن كنت نبيًّا لم يضرَّك. فقد يمكن أن يعذرهم بتأويلهم، وأيضًا فإنَّه كان لا ينتقم لنفسه تواضعًا لله، وكان لا يقتل أحدًا من المنافقين المناصبين له بالعداوة والغوائل، لأنَّه كان على خلقٍ عظيمٍ من الصَّفح، والإغضاء والصَّبر، وأصل هذا كلِّه أنَّ الإمام فيه بالخيار إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه وفيه علامات النُّبوَّة.


[1] في (ص): ((عهدًا وإن)) والمثبت من المطبوع.