شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب[الصبر على أذى المفاتنين]

          ░18▒ باب
          فيه: الأعْمَشَُ، سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ، شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، يَقُولُ: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، رَأَيْتُنِي يَوْمَ أبي جَنْدَلٍ، وَلَوْ أني أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبيِّ صلعم لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا على عَوَاتِقِنَا لأمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إلى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا. [خ¦3181]
          وفيه: أَبُو وَائِلٍ: (كُنَّا بِصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا على الْحَقِّ وَهُمْ على الْبَاطِلِ؟ قَالَ: نَعَم، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلانَا في الْجَنَّةِ، وَقَتْلاهُمْ في النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا، أَنَرْجِعُ ولَمْ يَحْكُمِ اللهُ بَيْنَنَا؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا، فَانْطَلَقَ عُمَرُ إلى أبي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْل النَّبيِّ صلعم فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلعم على عُمَرَ إلى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ). [خ¦3182]
          وفيه: أَسْمَاءُ: (قَدِمَتْ عليَّ أُمِّي، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ قُرَيْشٍ، إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللهِ صلعم وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا، فَاسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ صلعم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، فَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِيهَا). [خ¦3183]
          قال المُهَلَّب: قوله: (اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ) يعني: في هذا القتال، يعظ الفريقين؛ لأنَّ كلَّ فريقٍ منهم يقاتل على رأيٍ يراه، واجتهادٍ يجتهده، فقال لهم سهلٌ: اتَّهموا رأيكم فإنَّما تقاتلون في الإسلام إخوانكم برأيٍ رأيتموه، فلو كان الرَّأي يقضى به لقضيت يوم أبي جندلٍ بردِّ أمر النَّبيِّ صلعم يوم الحديبية، حين قاضى أهل مكَّة أن يردَّ إليهم من فرَّ إلى النَّبيِّ صلعم من المسلمين، فخرج أبو جندلٍ يستغيث يجرُّ قيوده، وكان قد عُذِّب على الإسلام. فقال سهيلٌ، والد أبي جندلٍ: هذا يا محمَّد أوَّل ما أقاضيك عليه. فردَّ إليه أبا جندلٍ، وهو ينادي: أتردُّونني إلى المشركين وأنا مسلمٌ، وترون ما لقيت من العذاب في الله؟!
          وقام سهيلٌ إلى ابنه بحجرٍ فكسر فمه، ففارت نفوس المسلمين حينئذٍ، وقال عمر: لسنا على الحقِّ؟ ولذلك قال سهلٌ: ولو أستطيع أن أردَّ أمر النَّبيِّ صلعم لرددته.
          وقوله: (وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا) يعني: ما جرَّدناها في الله لأمرٍ فظيعٍ علينا عظيمٍ إلَّا أسهلت بنا سيوفنا، وأفضته بنا إلى أسهل من أمرنا، غير هذا الأمر، يعني: أمر الفتنة التي وقعت بين المسلمين في صدر الإسلام؛ فإنَّها مشكلةٌ لم تتبيَّن السُّيوف فيها الحقيقة بل حلَّت المصيبة بقتل المسلمين، فنزع السَّيف أوَّل من سلَّه في الفتنة.
          وغرض البخاريِّ في هذا الباب: أن يعرِّفك أنَّ الصَّبر على المفاتن، والصِّلة للمقاطع أقطع / للفتنة وأحمد عاقبة، فكأنَّه قال: باب الصَّبر على أذى المفاتنين وعاقبة الصَّابرين. ألا ترى أنَّ النَّبيَ صلعم أحذ يوم الحديبية في قتال المشركين بالصَّبر لهم، والوقوع تحت الدَّنية التي ظنَّها عمر في الدِّين؟ وكان ذلك الصَّبر واللِّين الذي فهمه رسول الله صلعم عن ربِّه في بروك النَّاقة عن توجيهها إلى مكَّة أفضل عاقبةٍ في الدُّنيا والآخرة من القتال لهم، وفتح مكَّة على ذلك الحنق الذي قال المسلمين من تحكُّمهم على النَّبيِّ صلعم، فكان عاقبة صبر النَّبيِّ صلعم ولينه لهم أن أدخلهم الله الإسلام، وأوجب لهم أجرهم في الآخرة.
          ألا ترى قوله: ((لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعَم)) فكيف بأهل مكَّة أجمعين، وهم الذين كانوا أئمَّة العرب وسادة النَّاس، وبدخولهم دخلت العرب في دين الله أفواجًا.
          وفيه من الفقه: أنَّ صلة المقاطع أنجع في سياسة النُّفوس، وأحمد عاقبةً، وعلى مثل هذا المعنى دلَّ حديث أسماء في صلة أمِّها وهي مشركةٌ.
          قال الطَّبريُّ: وفي حديث سهل بن حنيفٍ الدَّلالة البيِّنة أنَّ رسول الله صلعم كان يدير كثيرًا من حروبه بحسب ما يحضره من الرَّأي ممَّا الأغلب عنده أنَّه الصَّواب، وإن كان الله تعالى قد كان عهد إليه في جواز الصُّلح في مثل الحال التي صالحهم عليها عهدًا، فمن ذلك الرَّأي كان، لولا ذلك لما كان عمر وسهل بن حنيفٍ ومن كان ينكر الصُّلح ويرى قتال القوم أصلح في التَّدبير والرَّأي لينكروا ذلك، ويؤثروا آراءهم بالقتال على تركه لو كان عندهم آيةٌ من أمر الله تعالى نبيَّه، ولكنَّه كان عندهم أنَّه رأيٌ من النَّبيِّ صلعم وإبقاءٌ على من معه من الصَّحابة؛ لقلَّة عددهم، وكثرة عدد المشركين، وكان عمر والذين يرون قتال القوم لحسن تصابرهم وجميل نيَّاتهم في الإسلام إذ(1) كانوا أهل الحقِّ، والمشركون أهل الباطل يرون أنَّ الحقَّ لن يعلوه باطلٌ، لا سيَّما عددٌ: الله وليُّهم ورسوله، فأيَّدهم، فعظم بذلك عليهم الانحطاط في الصُّلح، ورأوه وهنًا في الدِّين، وكان رسول الله أعلم بما يؤدِّي إليه عاقبة ذلك الصُّلح منهم ممَّا هو أجدى على الإسلام وأهله نفعًا، وأنَّ الله أوحى إليه الأمر بترك قتال القوم؛ لأنَّ ذلك أسدُّ في الرَّأي.
          وفيه الدَّلالة الواضحة على أنَّ لأهل العلم الاجتهاد في النَّوازل في دينهم فيما لا نصَّ فيه من كتاب الله ولا سنَّة. وذلك أنَ الذين أنكروا الصُّلح يوم أبي جندلٍ أنكروه اجتهادًا منهم، ورسول الله بحضرتهم يعلم ذلك من أمرهم، فلم ينههم عن القول بما أدَّى إليه اجتهادهم، وإن كان قد عرَّفهم خطأ رأيهم في ذلك، وصواب رأيه، ولو كان الاجتهاد خطأً لكان حريًّا عليه صلعم أن يتقدَّم إليهم بالنَّهي عن القول بما أدَّاهم إليه اجتهادهم أشدَّ النَّهي.
          وفيه أيضًا: أنَّ المجتهد عند نفسه ممَّا يدرك بالاستنباط لا تبعة عليه فيما بينه وبين الله خطأٌ، إن كان منه في اجتهاده، إذا كان اجتهاده على أصلٍ، وكان من أهله؛ لأنَّ النَّبيَ صلعم لم يؤثِّم عمر ومن أنكر الصُّلح، والمعاني التي جرت بينهم في كتاب الصُّلح ممَّا كان خلافًا لرأي رسول الله صلعم، ولو كانوا في ذلك مذنبين لأمرهم النَّبيُّ صلعم بالتَّوبة، ولكنَّهم كانوا على اجتهادهم مأجورين، وإن كان الصَّواب فيما رأى رسول الله صلعم، وذلك نظير قوله صلعم: ((إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ)) وستأتي زيادةٌ في هذا المعنى في كتاب الاعتصام إن شاء الله. [خ¦7352]
          وقال أبو الحسن بن القابسيُّ: وقول عمر: (أَلَيسَ قَتَلاَهُم فِي النَّارِ؟ فَعَلامَ نُعطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟) هذه المراجعة هي التي قال فيها عمر في حديث مالكٍ: نزرت رسول الله صلعم كلَّ ذلك لا يجيبك.


[1] في (ص): ((إذا)) والمثبت من المطبوع.