شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: كيف ينبذ إلى أهل العهد

          ░16▒ باب كَيْفَ يُنْبَذُ إلى أَهْلِ الْعَهْدِ
          وَقَوْل اللهِ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً}الآية[الأنفال:58]
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: أَلاَ لا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَيَوْمُ الْحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ: الأكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجُّ الأصْغَرُ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إلى النَّاسِ في ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الذي حَجَّ فِيها النَّبيُّ صلعم مُشْرِكٌ. [خ¦3177]
          أجمع العلماء أنَّ للإمام أن يبدأ من يخاف خيانته وغدره بالحرب بعد أن يعلمه ذلك، وقيل: إنَّ هذه الآية نزلت في قريظة؛ لأنَّهم ظاهروا المشركين على حرب رسول الله صلعم ونقضوا العهد.
          وقال الكسائيُّ وغيره في قوله: {عَلَى سَوَاءٍ}[الأنفال:58]السَّواء: العدل، وروى عن ابن عبَّاسٍ قال السَّواء: المثل، وقيل: انبذه إليهم على سواءٍ. أي: أعلمهم أنَّك قد حاربتهم حتَّى يصيروا مثلك في العلم.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما خشي الرَّسول صلعم من المشركين عند الطَّواف بالبيت خيانتهم ولم يأمن من مكرهم، فأراد تعالى أن يطهِّر البيت من نجاستهم بقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}[التوبة:28]وأراد تنظيف البيت ممَّن كان يطوف عريانًا، وفي هذا دليلٌ أنَّ حجَّة أبي بكرٍ بالنَّاس كانت حجَّة الإسلام؛ لأنَّه وقفه بعرفة ووقف في ذي الحجَّة، والوقوف بعرفة بنصِّ كتاب الله {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}[البقرة:199]يعني: طواف العرب، وقد اتَّفق أهل السِير أنَّ العرب كانت تفترق فرقتين، فرقةٌ تقف بعرفة، وكانت قريش تقف بالمشعر الحرام، وتقول نحن الحمس، ولا نعظِّم غير الحرم، فإذا كان يوم النَّحر اجتمعت القبائل كلُّها بمنًى، وهو يوم الاجتماع الأكبر.
          وقول أبي هريرة: (يَومُ الحَجِّ الأَكبَرِ: يَومُ النَّحرِ؛ مِنْ أَجلِ قَولِ النَّاس: الأَصغَرِ) يريد العمرة أنَّها الحجِّ الأصغر. ومذهب مالكٍ وجماعة من الفقهاء أنَّ يوم الحج الأكبر: يوم النَّحر وقال قومٌ: هو يوم عرفة.
          والحجَّة للقول الأوَّل ما نصَّه أبو هريرة، ونادى به في الموسم عن أبي بكر الصِّدِّيق عن النَّبيِّ صلعم أنَّ يوم الحجِّ الأكبر: يوم النَّحر.
          وأمَّا جهة النَّظر: يوم النَّحر يعظِّمه أهل الحجِّ وسائر المسلمين بالتَّكبير، وفيه صلاة العيد والنَّحر، ألا ترى قوله صلعم: (أَيُّ يَومٍ هَذَا؟) فجعل له حرمةً على سائر الأيَّام كحرمة الشَّهر على سائر الشُّهور والبلد على سائر البلاد.