شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل يعفى عن الذمي إذا سحر؟

          ░14▒ باب هَلْ يُعْفَى عَنِ الذِّمِّيِّ إِذَا سَحَرَ
          وَسُئِلَ ابْن شِهَابٍ أَعلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ قَتْلٌ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبيَّ صلعم صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
          فيه: عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ صَنَعَ الْشَيْءِ وَلَمْ يَصْنَعْهُ). [خ¦3175]
          قال المؤلِّف: لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالكٍ؛ لقول ابن شهابٍ، ولكن يعاقب إلَّا أن يَقتُلَ بسحره؛ فيُقتل، أو يحدث حدثًا؛ فيأخذ منه بقدر ذلك، وهو قول أبي حنيفة والشَّافعيِّ. وروى ابن وهبٍ وابن القاسم عن مالكٍ أيضًا أنَّه لا يقتل ساحر أهل العهد إلَّا أن يدخل بسحره ضررًا على مسلمٍ لم يعاهد عليه، فإذا فعلوا ذلك، فقد نقضوا العهد؛ يحلُّ بذلك قتلهم.
          و على هذا القول لا حجَّة لابن شهابٍ في أنَّ النَّبيَّ صلعم لم يقتل اليهوديَّ الذي سحره؛ لوجوه، منها أنَّه قد ثبت عن الرَّسول أنَّه كان لا ينتقم لنفسه، ولو عاقبه لكان حاكمًا لنفسه.
          قال المُهَلَّب: وأيضًا فإنَّ ذلك السِّحر لم يضرَّه صلعم؛ لأنَّه لم يفقده شيئًا من الوحي، ولا دخلت عليه داخلةٌ في الشَّريعة، وإنَّما اعتراه شيءٌ من التَّخيُّل والتَّوهُّم، ثمَّ لم يتركه الله على ذلك، بل تداركه ثمَّ عصمه وأعلمه بموضع السِّحر، وأمره باستخراجه وحلَّه عنه، فعصمه الله من النَّاس ومن شرِّهم، كما وعده، وكما دفع عنه أيضًا ضرَّ السُّمِّ بعد أن أطلعه الله على المكيدة فيه، بأنَّه أظهرها إليه معجزةً من كلام الذِّراع.
          وقد اعترض بعض الملحدين بحديث عائشة، وقالوا: وكيف يجوز السِّحر على النَّبيِّ صلعم، والسِّحر كفرٌ وعملٌ من أعمال الشَّياطين، فكيف يصل ضرُّه إلى النَّبيِّ صلعم مع حياطة الله له وتسديده إيَّاه بملائكته، وصون الوحي من الشَّياطين؟
          وهذا اعتراضٌ يدلُّ على جهلٍ وغباوةٍ من قائله وعنادٍ للقرآن؛ لأنَّ الله قال لرسوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى قوله: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق:1-4]والنَّفَّاثات: السَّواحر ينفثن في العقد كما ينفث الرَّاقي في الرُّقية، فإن كانوا أنكروا ذلك؛ لأنَّ الله لا يجعل للشَّياطين سبيلًا على النَّبيِّ صلعم، فقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}[الحج:52]يريد إذا تلا ألقى الشَّيطان.
          وقد رُوي عن النَّبيِّ صلعم أنَّ عفريتًا تفلَّت(1) عليه ليلةً ليقطع عليه الصَّلاة حتَّى همَّ أن يربطه إلى ساريةٍ من سواري المسجد فذكر قول سليمان: / {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي}[ص:35]فردَّه خاسئًا. وليس في جواز ذلك على النَّبيِّ صلعم ما يدلُّ أنَّ ذلك يلزمه أبدًا، أو يدخل معه عليه داخلةٌ في شيءٍ من حاله أو شريعته، وإنَّما ناله من ضرِّ السِّحر ما ينال المريض من ضرِّ الحمَّى والبرسام من غير سحرٍ، من الضَّعف عن الكلام، وسوء التَّخيُّل، ثمَّ زال ذلك عنه، وأفاق منه، وأبطل الله كيد السَّحرة، وقد أجمع المسلمون أنَّه معصومٌ في الرِّسالة فسقط اعتراض الملحدة.


[1] صورتها في (ص) وكذا في المطبوع: ((تغلب)) والمثبت من التوضيح.