شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما أقطع النبي من البحرين

          ░4▒ باب مَا أَقْطَعَ النَّبيُّ صلعم مِنَ الْبَحْرَيْنِ
          وَمَا وَعَدَ مِنْ مَالِ الْبَحْرَيْنِ، وَالْجِزْيَةِ، وَلِمَنْ قسَمَ الْفَيْءَ وَالْجِزْيَةَ؟
          فيه: أَنَسٌ: (دَعَا النَّبيُّ صلعم بالأنْصَارَ؛ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بِالْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لا، وَاللهِ حَتَّى تَكْتُبَ لإخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: ذَلِكَ لَهُمْ مَا شَاءَ اللهُ على ذَلِكَ، يَقُولُونَ لَهُ. قَالَ: فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي على الْحَوْضِ). [خ¦3163]
          وفيه: جَابِرٌ، قَالَ صلعم: (لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ، أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَجَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلعم عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَدْ كَانَ قَالَ لي: لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ، لأعْطَيْتُكَ ثَلَاثًا، فَقَالَ لَهُ: احْثُهُ، فَحَثَوْتُ حَثْيَةً، فَقَالَ لي: عُدَّهَا، فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا فِيهَا خَمْسُ مِائَةٍ). [خ¦3164]
          وفيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم أُتِيَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: انْثُرُوهُ في الْمَسْجِدِ، فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ النَّبيُّ صلعم إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا، قَالَ: خُذْ، فَحَثَا في ثَوْبِهِ) وذكر الحديث. [خ¦3165]
          قال المُهَلَّب: إنَّما أراد صلعم أن تخصَّ الأنصار بهذا الإقطاع؛ لما كانوا تفضَّلوا به على المهاجرين، من مشاركتهم في أموالهم، فقالت الأنصار: لا والله حتَّى تكتبه لإخواننا من قريشٍ _تعني المهاجرين_ بمثلها إمضاءً لما وصفهم الله به من الأثرة على أنفسهم، وحسن التَّمادي على الكرم.
          وفيه: جواز التَّردُّد على الإنسان بالقول فيما يأباه المرَّة بعد المرَّة، وجواز التَّرداد بالإبانة عن الشَّيء، لما يكون في ذلك من الفخر والعزِّ، كما أبت الأنصار أن تقبل مال البحرين دون المهاجرين، فكان في ذلك فخرهم وعزُّهم.
          وفيه: لزوم الوعد للأمراء وأشراف النَّاس، وأنَّه ممَّا يقضى عنهم على طريق الفضل لمشاكلة ذلك لأخلاقهم، وسيأتي ما يلزم من العدة وما لا يلزم منها في كتاب الهبة، في باب: إذا وعد أو وهب ثمَّ مات قبل أن يصل إليه، إن شاء الله. [خ¦2598]
          وفيه: تأدية الإمام ديون من كان قبله من الأئمَّة والخلفاء.
          وفيه: أنَّ ما كان أصله على سبيل التَّفضُّل أن يكون جزافًا بغير وزنٍ؛ بخلاف البيوع وما فيه معنى التَّشاحِّ.
          وأمَّا الفيء والجزية والخراج فحكم ذلك واحد، وما اجتبى من أموال أهل الذمة مما صولحوا عليه من جزية رؤوسهم التي بها حقنت دماؤهم، وحرمت أموالهم، ومنها وضيعة أرض الصُّلح التي منعها أهلها حتَّى صولحوا منها على خراج مسمًّى، ومنها خراج الأرضين التي فتحت عنوةً، ثمَّ أقرَّها الإمام في أيدي أهل الذِّمَّة التي يمرُّون بها لتجارتهم، ومنها ما يؤخذ من أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام للتِّجارة، فكلُّ هذا من الفيء، وهو الذي يعمُّ المسلمين غنيَّهم وفقيرهم، فيكون في أعطية المقاتلة وأرزاق الذُّرِّيَّة، وما ينوب الإمام من أمور النَّاس بحسن النَّظر للإسلام وأهله، قاله أبو عبيدٍ.
          واختلف الصَّحابة في قسم الفيء، فروي عن أبي بكرٍ / الصِّدِّيق التَّسوية بين الحرِّ والعبد، والشَّريف والوضيع، وروى عنه أنَّه كُلِّم في أن يُفَضِّل بين النَّاس، فقال: ((فضيلتهم عند الله، فأمَّا هذا المعاش فالتَّسوية فيه خيرٌ)). وهو مذهب عليِّ بن أبي طالبٍ، وإليه ذهب الشَّافعيُّ. وأمَّا عمر فكان يُفضِّل أهل السَّوابق ومن له من رسول الله صلعم قرابة في العطاء، وفضَّل أزواج النَّبيِّ صلعم في العطاء على النَّاس أجمعين، ففرض لكلِّ واحدةٍ اثني عشر ألفًا؛ ولم يلحق بهنَّ أحدًا إلَّا العبَّاس، فإنَّه جعله في عشرة آلاف، وذهب عثمان في ذلك إلى التَّفضيل، وبه قال مالكٌ، فلمَّا جاء عليُّ بن أبي طالبٍ سوَّى بين النَّاس، وقال: لم أعب تدوين عمر الدَّواوين ولا تفضيله، ولكن أفعل كما كان خليلي رسول الله يفعل، فكان يقسم ما جاءه بين المسلمين، ثمَّ يأمر ببيت المال فينضح، ويصلِّي فيه.
          وأمَّا الكوفيُّون فالأمر عندهم في ذلك إلى اجتهاد الإمام، إن رأى التَّفضيل فضَّل، وإن رأى التَّسوية سوَّى. وأحاديث هذا الباب تدلُّ على التَّفضيل، وهو حجَّةٌ لمن قال به.