شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: ذمة المسلمين وجوارهم واحدة يسعى بها أدناهم

          ░10▒ باب: ذِمَّةُ المسْلِمِينَ وَجِوَارُهُم وَاحِدةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُم
          فيه: عَلِيٌّ قَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابَ اللهِ تعالى، وَمَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: فِيهَا الْجِرَاحَاتُ _إلى قولِهِ:_ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. [خ¦3172]
          قال المُهَلَّب: معنى قوله: (وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ) أي: من انعقدت عليه ذمَّةٌ من طائفةٍ من المسلمين أنَّ الواجب مراعاتها من جماعتهم إذا كان يجمعهم إمامٌ واحدٌ، فإن اختلفت الأئمَّة والسَّلاطين فالذِّمَّة لكلِّ سلطانٍ لازمةٌ لأهل عمله، وغير لازمةٍ للخارجين عن طاعته؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم إنَّما قال ذلك في وقت إجماعهم في طاعته، ويدلُّ على ذلك حديث أبي بصيرٍ، حين كان شارط النَّبيُّ صلعم أهل مكَّة وقاضاهم على المهادنة بينهم وبين المسلمين، فلمَّا خرج أبو بصيرٍ من طاعة النَّبيِّ صلعم وامتنع، لم تلزم النَّبيَّ صلعم ذمَّته، ولا طولب بردِّ جنايته، ولا لزمه غرم ما انتهكه من المال.
          وقال ابن المنذر: في قوله صلعم: (يَسعَى بِهَا أَدنَاهُم) قال: الذِّمَّة: الأمان، يقول: إنَّ كلَّ من أمَّن أحدًا من الحربيِّين جاز أمانه على جميع المسلمين دَنِيًّا كان أو شريفًا، حرًّا كان أو عبدًا، رجلًا أو امرأةً، وليس لهم أن يخفروه. واتَّفق مالكٌ والثَّوريُّ والأوزاعيُّ واللَّيث والشَّافعيُّ وأبو ثورٍ على جواز أمان العبد قاتل أو لم يقاتل، واحتجُّوا بقوله صلعم: (يَسعَى بِذِمَّتِهِم أَدنَاهُم). وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز أمان العبد إلَّا أن يقاتل. وقولهما خلاف مفهوم الحديث.
          وأجاز مالكٌ أمان الصَّبيِّ إذا عقل الإسلام، ومنع ذلك أبو حنيفة والشَّافعيُّ وجمهور الفقهاء، واحتجَّ الشَّافعيُّ بأنَّ الصَبيَّ لا يصحُّ عقده؛ فكذلك أمانه، والحجَّة لمالكٍ عموم قوله صلعم: ((يجير على المسلمين أدناهم)) فدخل في ذلك الصَّبيُّ وغيره، وأيضًا فإنَّ أحكام الصَّبيِّ تطوُّعٌ، وهو ممَّن يصحُّ منه التَّطوُّع، ويفرض له سهمه إذا قاتل، وإنَّما الأمان ممَّا اختصَّ به من له حرمة الإسلام، فجعل لأدناهم كما جعل لأعلاهم، وعلى أنَّ الصَبيَّ والعبد أحسن حالًا من المرأة، لأنَّها ليست من جيش من يقاتل.
          قال المُهَلَّب: وقوله (فَمَنْ أَخفَرَ مُسلِمًا) يعني: فيمن أجاره (فَعَلَيهِ لَعنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ) هذا اللَّعن وسائر لعن المسلمين إنَّما هو متوجِّه إلى الإغلاظ والتَّرهيب لهم عن المعاصي، والإيعاد لهم من قبل مواقعتها، فإذا وقعوا فيها دُعي لهم بالتَّوبة، يبيِّن هذا حديث النُّعمان وقوله: (لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ) يعني: في هذه الجناية، أي لا كفَّارة لها؛ لأنَّه لم يشرع فيها كفَّارةٌ فهي إلى أمر الله إن شاء عذَّب فيها وإن شاء غفرها على مذهب أهل السُّنَّة في الوعيد.